إيران هي الدولة الوحيدة في العالم التي تقوم بإجراء مناورات عسكرية مستمرة طيلة العام وفق توقيتات محسوبة بدقة، وتعلن أنها "رسالة سلام وصداقة لدول الجوار"، وأحدث تلك المناورات جرت بالامس القريب، حيث انطلقت مناورات "بيت المقدس 28" في منطقة "كاشان" وسط إيران، وتستهدف حسب البيان الرسمي الايراني "إطلاق صواريخ من طراز نازعات وفجر 5 وترمي لاستعراض قوة وطاقات الوحدات التابعة للقوة البرية في الجيش الايراني"، واعتبر العميد احمد رضا بوردستان قائد القوة البرية في الجيش الايراني أن رسالة المناورات تتمثل بـ "السلام والامن للبلدان الصديقة والجوار والرد الحازم والشديد لاعداء الجمهورية الاسلامية الايرانية".
رغم كثافة عدد المناورات التي تجريها إيران سنوياً وتنوعها بشكل لافت يجعل الجيش وقوات الحرس الثوري الايراني في حالة استنفار قتالي مستمرة، فإنه لا يمكن مطالبة طهران بالكف تماماً عن إجراء التدريبات والمناورات باعتبار ذلك حق من حقوق السيادة والتزام من جانب دول مجلس التعاون بسياسة خارجية قائمة على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، ولكن عندما تتمسك إيران بالاعلان بشكل مستمر عن أن هذه المناورات هي رسائل صداقة وسلام، فإن هذا الاعلان يثير السخرية ويطرح تساؤلات بديهية مشروعة: أي سلام يمكن أن تحمله تجارب صاروخية لصواريخ هجومية وليست دفاعية الطابع؟!
الأسلحة في الجيوش كافة لها طابع هجومي أو دفاعي بل إن العقائد العسكرية ذاتها ترتكز على استراتيجيات هجومية أو دفاعية، ومن هنا يمكن فهم دوافع المناورات والتدريبات، فكل جيوش دول العالم تمتلك خططاً وبرامج دورية للمناورات والتدريبات العسكرية الفردية أو المشتركة، وهذا لاغبار عليه، ولكن تبقى إيران ضمن الأنظمة المؤدلجة التي تدمن المناورات بشكل مبالغ به، وتتخذها وسيلة لاشاعة أجواء الخوف والاضطراب في محيطها الاستراتيجي باعتبار ذلك هدفاً بحد ذاته، فالنظام الايراني هو نظام تعبوي قائم على عسكرة المجتمع، وهو ما ينعكس في تعددية المؤسسات والأجهزة التي تمتلك القوة الخشنة في البلاد، ومنها الجيش والحرس الثوري وميلشيات "الباسيج" التي تندرج تحت إمرة الحرس ، الذي يتبع مباشرة المرشد الأعلى الايراني، ولكل من هذه القوات والميلشيات ترسانات الأسلحة الخاصة بها والمناورات السنوية التي تجريها، بما يعكس تركيزاً هائلاً على مبدأ العسكرة واستخدام السلاح والقوة الخشنة بدرجة تجعل من الصعب على اي مراقب الاقتناع بفكرة رسائل السلام والصداقة التي تحاول طهران إيهام جيرانها بها وخداعهم بها.
من المعروف أن المناورات والتدريبات العسكرية لدى أي جيوش أو أحلاف عسكرية بشكل عام تنطوي على رسائل لأطراف بعينها، وقد تكون هذه الرسائل للردع أو التحذير أو التخويف أن استعراض القوة والهيبة والقدرات العسكرية، ولكن القول بأنها "رسالة صداقة" ليس سوى نوع من العبث والسخرية اللاذعة التي لا تتناسب بالمرة مع التصريحات والتهديدات الصريحة، التي لا تكف ألسنة الملالي عن توجيهها إلى دول الجوار يوماً واحداً!
عندما تجري إيران مناورات عقب اجتماعات قمة يعقدها قادة مجلس التعاون يخرج بعض مسؤولي طهران للادعاء بأنه لا علاقة ترابط وتزامن بين الحدثين، وأن المناورات كانت مبرمجة ... الخ من هذه الأكاذيب والمزاعم، التي لا تغيب عن فطنة عاقل راشد، فإن الرسالة التي لا تحمل مثل هذه المناورات سواها هي رسالة تهديد ووعيد، لاسيما أن هذه المناورات "المبرمجة" لا تجري سوى عقب لقاءات تخرج بقرارات وبيانات تتصادم مع مواقف إيران حيال القضايا الاقليمية والدولية.
تتلاعب إيران أيضاً بالالفاط في بياناتها حول المناورات وتزعم أنها رسائل سلام للاصدقاء وتحذير للأعداء، وهذا كلام يحتاج بحد ذاته إلى مرفق توضيحي لتفسيره وإزالة طلاسمه، فالمراد بالاصدقاء بالنسبة لإيران هم وكلائها وأتباعها والشيعة في المنطقة بشكل عام، والباقين يندرجون ضمن الأعداء بحسب تحليل الرؤية والتصور الاستراتيجي الايراني. وإذا كان المعنى في باطن الشاعر كما يقال، فليست هناك دولة يمكن تصنيفها ضمن مربع العداء مع إيران وفقا للخطاب السياسي الايراني الرسمي أكثر من إسرائيل، ولكن الواقع يكذب ـ بل ينسف ـ هذه الفرضية من جذورها، فإسرائيل لا تشعر بأي خطر حقيق او جاد من ناحية إيران، وكل ما يحدث من جانب تل أبيب هو توظيف سياسي إسرائيلي للضجيج والتصريحات الايرانية الفارغة في جذب مزيد من الدعم العسكري الأمريكي وضمان استمرار فكرة التفوق العسكري الاسرائيلي إقليمياً.
هل يمكن أن تصدق دول مجلس التعاون سلمية المناورات الايرانية وطيب مقاصدها في وقت يعلن فيه القادة الايرانيين رسمياً أن بعض هذه المناورات يستهدف التدريب على إغلاق مضيق هرمز، الذي يمثل شريان الحياة الاقتصادي لدول الجوار الايرانية؟ ثم أي رسائل صداقة قد ينطوي عليها إغلاق مضيق بما يخالف القوانين والقواعد القانونية الخاصة بالممرات المائية الدولية؟ وهل تصدق دول مجلس التعاون حسن نوايا إيران وهي تجرب تدريبات على أسلحة هجومية الطابع وليست لأغراض دفاعية بحتة؟ وفوق هذا وذاك أي نوايا طيبة يمكن أن تحملها مناورات تجريها دولة لا تكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لبعض دول مجلس التعاون، وتحاول اثارة القلاقل والاضطرابات داخل هذه الدول مرة تلو الأخرى؟
هناك مزاعم يرددها بعض أتباع إيران وأبواقها ووكلائها الاقليميين مفادها أن قوة إيران قوة مضافة للمنطقة، وان وجود دولة قوية يحمي مصالح شعوب دول المنطقة ويحمي استقلالها ويحول دون تدخل القوى الكبرى فيها، وهذا كلام خال من الصحة والمنطقية، فأكثر دولة تثير البلابل والاضطرابات في دول المنطقة هي إيران، وهناك أدلة وبراهين كثيرة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيرها، فكيف ينطلي هذا المنطق الساذج ويغطي على الواقع التوسعي المشبوه للدور الايراني الاقليمي.
الحقيقة أن المناورات الايرانية في مجملها ليست سوى رسائل تهديد صريحة لدول الجوار العربية، فالجميع بات يدرك حقيقة نوايا إيران وأطماعها التوسعية، التي كانت تستهدف إحكام طوق السيطرة الاستراتيجي الطائفي على دول مجلس التعاون عبر وكلائها الحوثيين في اليمن وصولا إلى وكلائها من "حزب الله" في لبنان شمالاً.