هناك مؤشرات لم تتبلور بعد على أن التيار الإيراني المتشدد يراهن على الدفع بالجنرال قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري، لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة في البلاد المقرر إجراؤها العام المقبل. ويأتي هذا التطور على خلفية الهزائم التي مني بها التيار المتشدد في انتخابات مجلس الشورى الإيراني.
رغم تداول فرص ترشح سليماني ومناقشتها من جانب بعض مراكز الدراسات والدوريات الغربية المعروفة، فإن هذا الأمر لا يبدو محسوماً بالنسبة للتيار المتشدد في إيران حتى الآن لأسباب عدة، أهمها نوايا المرشد الأعلى خامنئي نفسه، وتصوره للخارطة السياسية المقبلة في إيران سواء في مرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس حسن روحاني، أم في إدارة العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية تحديداً، حيث يعني مجرد ترشح سليماني أن طهران لا تنوي تغيير سياساتها، وأنها تتمسك بالتشدد والخطاب الغوغائي حيال الغرب نهجاً لها.
من الناحية الشكلية، يعتبر خامنئي الأب الروحي للجنرال سليماني، وهو من قام بتصعيده إلى واجهة الساحة الإيرانية في السنوات الأخيرة، ولا يترك مناسبة إلا ويشيد بدوره في ملفات خارجية عدة حيوية بالنسبة إلى السياسة الخارجية الإيرانية، حيث سبق أن قال عنه “سليماني استشهد مرات عديدة في جبهات القتال.. إنه شهيد الثورة الحي”، وعلاقة خامنئي بسليماني تبدو وطيدة وقوية منذ أيام الحرب العراقية – الإيرانية، لذا فإن هناك ثقة كبيرة به من جانب المرشد الأعلى الإيراني. لذا يعتقد بعض خبراء الشأن الإيراني في الغرب أن خامنئي قد يدفع سليماني إلى كرسي الرئاسة في حال تعقد الأمور بملفات ذات صلة بمصالح إيران الإقليمية، مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها، لاسيما أن الجنرال سليماني من القادة المؤدلجين الذين يؤمنون بفكرة التمدد الثوري، وقد سبق له أن تناول أسباب وجود الحرس الثوري في سوريا قائلا إن “نصر إيران اليوم أو هزيمتها لا يكونان في مهران أو هرمشهر، حدودنا تمددت، كل ما يحدث في مصر والعراق ولبنان وسوريا هو من ثمار الثورة، علينا أن نثبت نصرنا هناك”.
والأهم أن سليماني قد يكون رسالة إيران المقبلة للدول المجاورة، فالرجل مصنف أميركياً بأنه “إرهابي”، ويرتبط اسمه بالمؤامرة الإيرانية الفاشلة لاغتيال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير حين كان يعمل سفيراً لدى الولايات المتحدة في أكتوبر 2011.
عوامل كثيرة من شأنها حسم الجدل حول اختيار سليماني للترشح لانتخابات الرئاسة الإيرانية المقبلة منها مسار الأزمة السورية، فهو مسؤول الملف الإيراني في هذه الأزمة، ومساراتها كفيلة بتحديد بوصلة مستقبله إلى حد كبير، إما بالتصعيد ولعب دور سياسي أكبر، وإما بالانزواء والبقاء في دائرة الظل كجنرال خاسر في الجبهة السورية. ومن هذه العوامل أيضاً مصير الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب وموقف الإدارة الأميركية المقبلة حياله، فالاتفاق يتعرض في الوقت الراهن لضغوط قوية في الداخل الأميركي، وهناك احتمالات لتجميده أو دفع إيران إلى اختراقه وانتهاكه بما يبرر للولايات المتحدة إلغاءه والتصرف وفق رؤية إستراتيجية مغايرة للإدارة الأميركية المقبلة، وهنا قد يكون الجنرال سليماني هو الورقة التي يلعبها الإيرانيون لإثارة القلق الأميركي والإسرائيلي، فهو معارض شديد للاتفاق، ومن الوارد أن يكون استنساخا لسيناريو الرئيس السابق نجاد في تشدده حيال الغرب.
ما يدعم فرص سليماني أيضاً أن ساحة المتشددين تكاد تكون خاوية من عناصر مؤثرة، فالرعيل الأول من الثورة الإيرانية أوشك على الانقراض، ويعاني الباقون منهم من تدهور في شعبيتهم مثل ما حدث مع مصباح يزدي وغيره في انتخابات مجلس الشورى الأخيرة، ما يفتح الطريق أمام سليماني للاقتداء بالجنرال محسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري الذي خاض انتخابات الرئاسة الإيرانية عام 2009، والتي خاضها وفاز فيها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، الذي يحاول بعض المتشددين الآن الترويج لعودته لخوض الانتخابات المقبلة، وهو سيناريو وارد شريطة توافر ظروف ومعطيات استراتيجية معينة أيضاً.
الفكرة هنا أن الأمر لا يتعلق بتنافس سياسي حقيقي على منصب الرئيس، بل بكيفية إدارة المرشد للمناصب وكراسي السلطة في إيران، فهو أعلى سلطة حقيقية في هذا النظام الثيوقراطي، ويحرك ويتحكم في الترشح للمناصب كما يتحكم لاعبو عرائس السيرك فيها، وبالتالي فتصعيد “متشدد” أو “إصلاحي” بيد المرشد لا غيره، والتلاعب بالمسميات يخضع بالأساس للآلة الإعلامية الإيرانية التي تقدم هذا وتؤخر ذاك، وفق لعبة توزيع الأدوار التي يجيدها النظام ويحترفها باقتدار منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979.
قد يترشح سليماني أو لا يترشح لانتخابات الرئاسة الإيرانية المقبلة، ولكن النقطة الأهم في الجدل الإيراني حول هذه المسألة تتمثل في أن إيران كانت، ولا تزال، غير قادرة على التخلص من سياسات التشدد الذي أصبح مؤسسياً وله اليد الطولى في إدارة شؤون البلاد، وهناك مصالح عميقة لأنصار هذا التيار، لاسيما ما يتعلق بمصالح الحرس الثوري وجنرالاته، الذين يرفضون الانفتاح على العالم وأن تصبح إيران دولة طبيعية تتعامل وفق قواعد القوانين والأعراف الدولية سياسياً وتجارياً ودبلوماسياً، حيث يصر قادته على انتهاج “البلطجة الإقليمية”، وتبني سياسات القوة والغرور الفارسي القومي، ومن ثم لا تبدو في الأفق فرص معتبرة لمن يوصفون بالمعتدلين أو الإصلاحيين من أبناء الثورة الإيرانية، فهؤلاء تبقى فرص ظهورهم في المشهد الإيراني رهن مصالح النخبة الحاكمة والمرشد الأعلى، فتارة يدفعون بهم إلى تصدر المشهد كما حدث في حالتيْ الرئيس خاتمي وبدرجة أقل الرئيس حسن روحاني، وتارة أخرى يدفعون بهم إلى الانزواء لمصلحة القادة المتطرفين، الذين يعبرون في حقيقة الأمر عن روح الثورة الإيرانية ونواياها حيال الإقليم والعالم.