يصر ملالي إيران على تصدير الوهم لتابعيهم وأنصارهم داخل البلاد وخارجها، ويفترض هؤلاء في الجميع السذاجة وانعدام الوعي السياسي، ومناسبة هذا الكلام أن المرشد الإيراني علي خامنئي تحدث مؤخرا في مراسم الاحتفال بإحياء الذكرى السنوية لرحيل الخميني، للإعلان عن رفض بلاده التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في القضايا الإقليمية. وعاد خامنئي إلى وصف الولايات المتحدة بـ“الشيطان الأكبر”، بينما وصف بريطانيا بالدولة الخبيثة، ووصف الدولتين بـ“العدوتين” اللدودتين لإيران.
وأشار خامنئي إلى أن “أميركا مستمرة في عدائها لإيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979، لذلك سيكون قيام إيران بمد يد الثقة لتلك الدولتين خطأ جسيما”، وأضاف “لن نتعاون مع أميركا في الأزمة الإقليمية. أهدافها في المنطقة تختلف 180 درجة عن أهداف إيران”.
قد يستغرب البعض وصفي لحديث المرشد الإيراني الحالي بالأوهام، ولكن ما يزيل الاستغراب أن هذا الكلام قد صدر عقب أيام قلائل من الكشف عن وثائق أميركية، رفعت واشنطن غطاء السرية عنها، وهي وثائق تخص المرشد السابق وملهم ملالي إيران وقائد ثورتهم، وتفيد بأن الخميني صاحب شعار “الموت لأميركا” و”الشيطان الأكبر” كان على صلة وثيقة بالحكومة الأميركية منذ ستينات القرن الماضي حتى قبل أيام من وصوله إلى طهران قادما من باريس وإعلان الثورة الإيرانية عام 1979.
وتشير الوثائق التي نشرتها وكالة المخابرات الأميركية (سي أي إيه) إلى أن الخميني أبدى رغبته في التواصل مع الرئيس الأميركي، ثم تبادل رسائل مع الرئيس السابق جون كينيدي، وشرح الخميني في تلك الرسائل ضرورة عدم تفسير هجومه اللفظي على الولايات المتحدة بطريقة خاطئة لأنه يحمي المصالح الأميركية في إيران.
الكشف عن هذه الوثائق المهمة قد تم عشية الاحتفال بذكرى وفاة الخميني، لتشير إلى ما كان يدور وراء ك واليس السياسة الإيرانية، ويفضح زيف الادّعاءات الخاصة بالعداء لأميركا، فالخميني نفسه أوضح في رسالة له أنه لا يعارض المصالح الأميركية في إيران، وأكد على أن “حضور الولايات المتحدة مهم مقابل الاتحاد السوفييتي (السابق)”، وأكدت الوثائق أن الخميني كان يتواصل مع واشنطن ويرسل الوعود له خلال ذروة المدى الثوري التعبوي الذي شهد تصعيدا كلاميا سافرا ضد الولايات المتحدة.
تشير هذه الوثائق إلى أن الخميني تفاوض مع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر قبيل الثورة الإيرانية، وقدم لها العديد من الوعود طالبا منها التأثير في موقف الجيش الإيراني تجاهه، وقدم وعودا بعدم قطع النفط الإيراني عن الغرب وأنه سيقيم علاقات ودية مع الولايات المتحدة، ولن يصدر ثورته إلى منطقة الخليج العربي.
هذه الوثائق تكشف عن أمر بالغ الأهمية هو أن هناك وجهين لملالي إيران، وجه يصدرونه إلى أتباعهم ومريديهم، ووجه آخر يقدم للغرب والولايات المتحدة تحديدا، وإلا فما معنى أن يدَّعي علي خامنئي استمرار العداء للولايات المتحدة وهو من كان يرسل الوفود إليها من كبار المسؤولين الإيرانيين للتفاوض حول البرنامج النووي الإيراني طيلة الأعوام الماضية، حتى انتهت المفاوضات مع مجموعة “5+1” بتوقيع الاتفاق النهائي العام الماضي؟ وما أشبه الليلة بالبارحة فما يفعله خامنئي اليوم ليس سوى استنساخ من سلوك سلفه المرشد السابق.
من الناحية التحليلية، فإن خامنئي يناور بأوراق عدة في مواجهة تشدد الولايات المتحدة حيال البرنامج الصاروخي الإيراني، ومحاولة إبداء التشدد والعودة إلى رفع الشعارات المعادية إحدى أبرز هذه الأوراق، فطهران كانت تعتقد أن توقيع الاتفاق النووي يضع الإدارة الأميركية الحالية في موقف حرج، وسيدفعها إلى التزام الصمت حيال انتهاكات إيران للقواعد الدولية في مجال التسلح الصاروخي والنووي، ولكن تقديراتها باءت بالفشل، وجاء رد الفعل الأميركي، ولا سيما من قبل الكونغرس والأوساط السياسية الأميركية، مخيبا لآمال طهران، التي باتت تنظر بإحباط إلى مصير الاتفاق النووي عقب انتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما.
ثمة تفسير آخر قائم على أن الاتفاق النووي كان بمنزلة “كأس سم” آخر تجرعه ملالي إيران خشية التعرض لضربة عسكرية استباقية أميركية تدمر المنشآت النووية الإيرانية وقد تقوض النظام برمته، ومن ثم فقد جاء الانصياع لمبدأ التفاوض حول البرنامج النووي كتكتيك لا يعبر عن تحوّل في النهج الاستراتيجي للنظام الإيراني.
وبين هذا وذاك من التفسيرات، ليس لديّ، شخصيا، أي إشكاليات مع المناورات السياسية، فما يظهر على السطح في العلاقات بين الدول لا يمثل سوى قمة جبل جليد يتوارى بمرور السنوات، ولكني أشعر باشمئزاز من خداع الشعوب، وارتداء الأقنعة الزائفة، مثل ما يحدث من ادّعاءات إيران بالعداء للغرب ورفع الشعارات الثورية ضدّه، في حين أن هناك العشرات من الأدلة على علاقات سرية تربط بين طهران وواشنطن بل وإسرائيل ذاتها، التي لا يكف الملالي عن الهجوم عليها كلاميا، وتهديدها ووصفها بأبشع الأوصاف.