لا أتفق كثيرا مع الذين استغربوا إعلان وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري أن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني يعمل في العراق بشكل رسمي بوظيفة مستشار عسكري للحكومة العراقية. فهذا الاعتراف ليس سوى ورقة التوت التي تحاول الحكومة العراقية ستر عورتها بها في مواجهة عدم قدرتها على التحكم في البلاد وفشلها في السيطرة على التدخل الإيراني ورسم حدود له ولو على سبيل التظاهر بالسيادة.
الواقع أن العبادي ووزير خارجيته لم يجدا مخرجا يعتقدان أنه يحفظ لهما ماء الوجه مما يحدث من حولهما سوى هذا الإعلان، الذي يفضح بقوة حدود العلاقات بين حكومة حيدر العبادي الطائفية من ناحية، وبين مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي من ناحية ثانية.
دعونا نتفق أولا على أنه لا العبادي ولا وزير خارجيته إبراهيم الجعفري يستطيعان منع إيران من التدخل في الشأن العراقي، ولا يمتلكان جرأة فتح نقاش مع خامنئي أو مستشاريه حول “حدود” هذا التدخل، وإعادة ترسيم هذه “الحدود” بما يحفظ للحكومة العراقية شكلا من أشكال السيادة أو حدا أدنى من الكرامة السياسية في مواجهة مواطنيها.
والسبب المباشر في ذلك أن حيدر العبادي قد عين بقرار من طهران، التي تخلت عن المالكي واستعانت برجل المرحلة الجديد وقتذاك حيدر العبادي لتنفيذ مهام محددة تستكمل بها طهران السيطرة على مقدرات الشعب العراقي. والأمر لا يقتصر على ذلك بل إن العبادي حافظ على كرسيه بدعم ومساندة مباشرين من خامنئي.
ولا يجب أن ننسى التصريح المهم الذي أدلى به منذ أشهر قليلة، علي أكبر ولايتي، أحد أهم مستشاري خامنئي، وقال فيه إن “أيّ قوة عراقية لن تستطيع إزاحة رئيس الجمهورية فؤاد معصوم ورئيس الحكومة حيدر العبادي ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري، من مناصبهم”، لافتا إلى أن “الحشد الشعبي سيتصدى للأطراف غير المسؤولة التي تثير بعض الاضطرابات والقلاقل في الساحة العراقية”، بل تحدى ولايتي معارضي العبادي من التيار الصدري قائلا “إن ما قيل بأن هناك إمكانية لإزاحة الحكومة العراقية الحالية هو ضرب من الوهم والخيال”.
لا يقتصر الأمر على ما سبق، فمنذ أشهر نشرت تقارير إعلامية موثوقة تؤكّد أن كمال خرازي، رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية في مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي، قد قام بزيارة إلى بغداد نقل فيها إنذارا مباشرا من خامنئي إلى حيدر العبادي.
ومفاد هذا الانذار أن ولي الفقيه الإيراني سيطيح برئيس الوزراء العراقي في حال لم يلتزم بالتوجيهات المتفق عليها بشأن تشكيل الحكومة العراقية. وسلسلة الفضائح في هذا الإطار طويلة وممتدة، فالمعروف أن ملالي إيران هم من وفروا الحماية لحكومة العبادي في مواجهة الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، وأمروا الحشد الشعبي بالتصدي لها وقمعها، لا سيما أن الاحتجاجات كانت ترفض التدخل الإيراني الفج في شؤون العراق. ولو كانت هذه التقارير غير دقيقة فليبلغ العبادي الجميع عن سر توقف حملته على الفساد، وكيف بلع لسانه حين وجد أن ملالي إيران غير راضين عن محاكمة رؤوس الفساد في العراق وفي مقدمتهم نوري المالكي وغيره.
وإذا كان هذا هو واقع الحكومة التي تحتفظ بوجودها بدعم مباشر من إيران، فلماذا نستغرب أن يخرج وزير الخارجية، ليجاهر بإثم سياسي بشع يتمثل في تعيين مسؤول عسكري يقود ميليشيات عسكرية تابعة لدولة أخرى وهي ميليشيات غير قانونية ومدرجة ضمن قوائم الإرهاب الدولية، في وظيفة مستشار عسكري لرئيس حكومته؟
الموضوعية تقتضي أن المجاهرة بالإثم لا تقدم ولا تؤخر في الحالة العراقية لأن الجنرال قاسم سليماني باق في العراق، ولا يتوقف وجوده على تعليمات حكومة حيدر العبادي وموقفها حياله، بل العكس هو الصحيح تماما، فهو من يقدم الحماية لهذه الحكومة، فكيف لها أن تضن عليه بلقب وتخلع عليه صفة المستشارية؟
الحقيقة الوحيدة التي قالها الجعفري في تصريحاته تلك إن “سليماني يعمل في الأراضي العراقية بعلم الحكومة العراقية ودرايتها التامة” فالرجل بالفعل يصدح بالحق في هذا الجانب، فكيف لحكومة أن تنكر معرفتها بوجود من يحميها في أراضي بلادها!
ربما اعتقد الجعفري لوهلة أن اعترافه بوجود الجنرال سليماني ومنحه لقب المستشار هو رد بالغ على الألسنة المعارضة، ولكنّ الرجل توهم بشكل خاطئ أن معارضي وجود سليماني غيورون على الحكومة العراقية فأراد أن يبرئها من مزاعم وجود غريب في بيتها، فالحقيقة أن سجل حكومة العبادي معروف ولكن هؤلاء غيورون على العراق العريق، الذي لا تنقصه الخبرات والكفاءات العسكرية والاستراتيجية، وبدرجات تفوق سليماني بمراحل، ولكنه الهوى السياسي والانحياز الطائفي البشع، الذي حصر خيارات الحكومة في الرضوخ لإملاءات من عينوهم في مناصبهم، فلم يفكّروا لحظة في الانتصار لكرامة الشعب العراقي، ولا التفكير ـولو للحظةـ في حجم الجرم الذي يرتكبونه في حق هذا البلد حين يتركون أجنبيا محترفا طليق اليدين للثأر من المسلمين السنة في بلدهم تحت مسمّى تقديم استشارات عسكرية.
ثم، هل بعد هذا الاعتراف البشع بالاستعانة بخدمات الجنرال سليماني الذي ينفذ تعليمات خامنئي ويتلقّى منه الأوامر مباشرة، هل بعد ذلك يمكن أن تجرؤ حكومة العبادي وتدّعي أنها حكومة لكل العراقيين، أو تحاول إسقاط تهمة الطائفية البغيضة عن نفسها؟
الكارثة أن الحشد الشعبي يسعى إلى احتلال العراق بشكل كامل ويمارس التطهير العراقي في أبشع صوره، وحكومة العبادي باتت تقر هذا التدخل علنا بغض النظر عن رأي الشعب العراقي.
للأسف اخترقت حكومة العبادي القواعد والمبادئ والأسس ذات الصلة بسيادة الدولة، وانتهكت كل ذلك حين جاهرت بالاستعانة بخدمات مسؤول عسكري حالي لدولة أخرى وتعيينه في منصب مستشار عسكري لرئيس الحكومة العراقية في إهانة تاريخية قد لا تمحى من سجل هذا البلد العريق، ولم يعد هناك ما يقال سوى “إن لم تستح فافعل ما شئت”.