بعد نحو ستة أشهر تقريبا على زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى باريس، وحصوله على ما وصفته وسائل الإعلام بـ”سيل من الصفقات التجارية” بلغت قيمتها الإجمالية نحو 45 مليار دولار، استضافت العاصمة الفرنسية مؤخرا مؤتمرا حاشدا للمعارضة الإيرانية، بحضور شخصيات بارزة من دول عدة منها اليجو فيدال كادراس، النائب السابق لرئيس الاتحاد الأوروبي، وفيليب كروالي، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، ومارك غينسبرغ، السفير الأميركي السابق في المغرب، والمستشار السابق للرئيس الأميركي لسياسات الشرق الأوسط، وفرانسيس تونسند، المستشارة السابقة للرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي، وهاوارد دين المرشح السابق للرئاسة الأميركية عن الحزب الديمقراطي.
المؤتمر السنوي للمعارضة الإيرانية ينظمه المجلس الوطني للمعارضة الإيرانية، الذي يتخذ من فرنسا مقرا، وهو مؤتمر تقليدي معتاد ولكن دورته الأخيرة حظيت باهتمام إعلامي عالمي غير مسبوق، وتناقلت وكالات الأنباء تصريحات زعيمة المعارضة الإيرانية مريم رجوي ومطالبتها برحيل نظام الملالي في مفارقة مريرة للنظام الذي انطلق مؤسسه الخميني من باريس أيضا في سبعينات القرن العشرين داعيا إلى إسقاط الشاه، وكان العالم وقتذاك يعتبر أن دعوته مجرد ملء فراغ في الهواء الطلق.
وقد حظي المؤتمر باهتمام واضح من النظام الإيراني الذي تابع تحديدا الكلمات والتصريحات التي انطلقت من الأمير تركي الفيصل الرئيس السابق للاستخبارات السعودية، التي صيغت بذكاء بالغ، وحرص خلالها على التفرقة بين النظام والشعب الإيراني، وقال إن العرب يكنون عظيم الاحترام للثقافة الإيرانية والإسهامات الفارسية، لكن إيران تصر على التدخل في شؤون دول الجوار وتأسيس منظمات طائفية. وأكد الفيصل “أن نظام الخميني لم يجلب سوى الدمار والطائفية وسفك الدماء ليس في إيران فحسب، وإنما في جميع دول الشرق الأوسط”، وأشار إلى أن “إيران تنتهك الدول بحجة دعم الضعفاء في العراق ولبنان وسوريا واليمن ودعم الجماعات الطائفية المسلحة، وأن دعمها يهدف إلى إشاعة الفوضى”، وبلغ الأمر ذروته حين رد الفيصل على هتاف الحضور في المؤتمر “الشعب يريد إسقاط النظام”، بقوله “وأنا أريد إسقاط النظام”.
بروز مريم رجوي زعيمة “مجاهدي خلق” في واجهة مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس رسالة قوية للنظام الإيراني من العالم أجمع، فالحشود الضخمة التي وصل عددها نحو مئة ألف من المشاركين في المؤتمر، قدموا من مختلف أنحاء أوروبا والولايات المتحدة وكندا، كما أن المجلس الوطني للمعارضة الإيرانية بلغ من النضج والرشد السياسي ما يؤهله لقيادة تيار واسع من الإيرانيين الرافضين لاستمرار حكم الملالي.
شخصيا، لست مع المهولين ولا مع المهونين من تحركات المعارضة الإيرانية في الخارج، ولكني أثق في تجارب التاريخ، وأدرك أن الشرارة عندما تنطلق في مثل هذه الحالات فستنتشر النيران حتما إلى بقية الغابة، ما يعني أن انعقاد المؤتمر هذا العام بهذه الكيفية والحيثية رسالة واضحة للنظام الإيراني، وهي ليست بالضرورة رسالة إنذار نهائية أو “بطاقة حمراء” يشهرها الغرب في وجه الملالي، ولكنها بالتأكيد رسالة ضغط وتحذير قوية، وهذا التحذير لا يعني أيضا أن الغرب يطالب إيران بما نطالبها به كدول وشعوب مجاورة في مجلس التعاون.
علينا أن نقرأ المشهد جيدا وبدقة وحذر، وعلينا ألا نبالغ في التحليل بالتمني، ففرنسا أو بقية دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ليست معنية بشكل كبير بعربدة إيران واستباحتها لأراضي دول مثل العراق وسوريا ما لم يكن هناك إضرار مباشر بمصالحها الاستراتيجية، وبالتالي علينا أن نكف عن المبالغة وبناء توقعات غير منطقية في هذه المسألة تحديدا.
علينا أيضا أن ندرك أن أحد أهداف الضغط الفرنسي تحديدا يكمن في انتزاع أكبر نصيب من “كعكة” المصالح الاقتصادية المتوقعة مع طهران خلال الفترة المقبلة، لذا أشهرت باريس سيف المعارضة الإيرانية ومنحت رجوي ورفاقها ضوءا أخضر لرفع الصوت عاليا والمطالبة بإسقاط نظام الملالي كي يرضخ ويقبل بتقديم ماهو مطلوب من صفقات تجارية واقتصادية خلال المرحلة المقبلة.
والمؤكد أن مشاركة الأمير تركي الفيصل في المؤتمر تمثل واقعة غير مسبوقة وتحولا نوعيا هائلا في نمط إدارة العلاقات بين ضفتي الخليج العربي، فإيران لم تكن تتوقع أن يستمر نهج المبادرة والمباداة والحزم العسكري وينتقل إلى المجال السياسي والدبلوماسي، فدول مجلس التعاون قد فاض بها الكيل حيال تجاوزات الجار الإيراني، الذي لم يعد يراعي أي قواعد أو أعراف دولية تنظم علاقات الدول بعضها ببعض، ويواصل تدخلاته الفجة في شؤون دول مجلس التعاون، ولا يكف قادته عن كيل الوعيد والتهديد لدول الجوار، لذا جاءت كلمات الأمير تركي الفيصل منذرة إيران بأن لدى دول مجلس التعاون أوراق ضغط صاعقة قادرة على ترجيح موازين القوى وخلط الأوراق في الداخل الإيراني.
على إيران أن تدرك أنها فتحت أبواب الجحيم على نفسها حين قررت مواصلة نهج التدخل في شؤون دول مجلس التعاون، فقد درجت منذ سنوات على تجاهل دعوات التحلي بمبادىء حسن الجوار والتزام قواعد القانون الدولي في هذا الشأن.
ورغم كل ما سبق، فإن مسارات وسيناريوهات المرحلة المقبلة في العلاقة بين الملالي والمعارضة والشعب الإيراني سيكتبها الإيرانيون بأنفسهم، فهم من دفعوا فاتورة أخطاء نظام الملالي وعانوا وتحملوا الكثير بسبب أخطائه وسياساته الطائشة التي استنزفت أموال الشعب الإيراني لمصلحة دعم تنظيمات الإرهاب والإنفاق على كسب نفوذ زائف في دول ومناطق عدة بدافع تحقيق أحلام وطموحات طائشة لسدنة النظام الإيراني.