ربما يعرف الكثيرون ما فعلته، ولا تزال، إيران في العراق، وهناك الكثير والكثير مما يقال على هذا الصعيد، ولكنني أقصد تحديدا ما يتعلق بتغيير الهندسة الديموغرافية لهذا البلد العربي العريق، فقد كانت تعقب تحرير أي مدينة أو محافظة عراقية من أيدي تنظيم “داعش” الإرهابي حملات تطهير مذهبية الطابع يقودها جنرالات الحرس الثوري الإيراني، وينفذها الحشد الشعبي، الذي يعرف الجميع هويته وتشكيله الطائفي البشع، وكونه ذراعا خبيثة لتنفيذ المؤامرة الإيرانية في العراق.
الجديد في خطط التوسع الطائفي الإيراني إقليميا، هو ما يحدث في سوريا حاليا، حيث يكرر جنرالات الحرس الثوري، بقيادة الجنرال قاسم سليماني، خططا استعمارية تستهدف إعادة الهندسة الديموغرافية في المدن السورية، والغـريب أنه رغم الدور الإيراني الخبيث والقبيح في آن واحد معا، فإن الرئيس السوري بشار الأسد يحتفل بتحرير المدن ولا ينظر إلى ما يحدث حوله، بل لا يهتم به من الأساس، فمن ضحى بأكثر من نصف شعبه، وتركه فريسة للتشرد واللجوء السياسي كي يعيش نظامه، لن يهتم بكل تأكيد بإعادة تموضع بضعة ملايين من هؤلاء السكان. العرب والعالم أجمع يتابعون كيف تقوم إيران بإعادة تقسيم سوريا فعليا وتهيئة الأرض لهذا التقسيم، الذي يتم وفق تخطيط تآمري طائفي بشع، ومؤخرا تفاوض جنرالات الحرس الثوري مع أحد التنظيمات الإرهابية بشأن مستقبل مدينة الزبداني الواقعة غرب دمشق، الواقعة تحت سيطرة هذا التنظيم، حيث عرض القادة الإيرانيون تفريغ المدينة من سكانها المسلمين السنّة واستبدالهم بآخرين، عبر نقل سكان قريتين شيعيتين إلى هذه المدينة.
إعادة الهندسة الديموغرافية في سوريا تستنسخ السيناريو العراقي، في تنفيذ لأحد أخطر أهداف إيران من التدخل في سوريا، وتعليقا على ذلك قال مسؤول لبناني “لا يريد الإيرانيون أي وجود للسنّة بين دمشق والحدود اللبنانية. هناك خطة واضحة لتغيير التركيبة الطائفية للسكان على طول الحدود”.
إيران لا تكتفي بإعادة توزيع سكان سـوريا تحت مرأى ومسمع من العرب والعالم كله، بل تقوم أيضا بتنفيذ استراتيجية متكاملة للتلاعب بهوية سوريا التاريخية، وتعتمد في ذلك على محاور عدة منها نقل شيعة عراقيين للسكن في سوريا، حيث تشير تقارير موثوقة إلى عمليات نزوح جماعية منهجية للآلاف من الشيعة العراقيين إلى مدن سورية بعينها. ومن هذه المحاور أيضـا تنفيذ سياسة تشبه سياسـة الاستيطان الإسرائيلية في بدايـاتها الأولى، وذلـك من خلال شراء الأراضي والعقـارات ورعاية النزوح الشيعي العراقي إلى هذه الأراضي والعقارات، لتأمين نقاط تمـركز ثم انتشار وكثـافة سكانية طـائفية في مـراحل لاحقة.
تحويل موازين القوى ديموغرافيا والتلاعب بالهندسة الديموغرافية للدول العربية، خطة تآمرية نفذتها إيران في العراق، وها هي تمضي على قدم وساق في سوريا، والكل يراقب ويتابع ويكتفي بالمشاهدة من دون أدنى تعليق.
الدول العربية لديها موقف رافض للاستيطان الإسرائيلي، والتلاعب بالهندسة الديموغرافية للأراضي الفلسطينية المحتلة، ويجب أن ينال ما تفعله إيران في سوريا الاهتمام ذاته، حتى الأشقاء العرب الذين يدعمون موقف النظام السوري، عليهم أيضا الانتباه إلى خطورة ما تفعله إيران في سوريا، فالأمر أخطر من مصير الأسد أو غيره، وما يحدثه جنرالات الحرس الثوري لن يعيد سوريا إلى ما كانت عليه، ولن يعيدها إلى الصف العربي كما يعتقدون، بل سنكون في مواجهة نظام موال تماما لإيران وراع قوي لمصالحها وتابع لأجندتها، سواء بقي الأسد أو غادر. تدرك إيران أن سوريا لن تعود دولة واحدة كما كانت، وتعد العدة لتقسيم تجري تهيئة الأرض له في واقع الأمر، وتستعد بإيجاد “كانتونات” شيعية تمثل مراكز لدويلة شيعية ربما تتواصل مع نظيرتها في العراق على المستوى الجغرافي وتكونان دولة واحدة، أو ربما تبقى دولة واحدة من الإرث السوري، والأمر يتوقف على طبيعة تفاهمات القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا، وكذلك كيفية تقسيم “كعكة” المصالح الاستراتيجية في هذا البلد العربي العريق.
إذا كانت إيران تستعد بهكذا سيناريوهات، وتخلق أمرا واقعا جديدا في الخارطة السورية، وتستغل في ذلك الحرب ضد تنظيمات الإرهاب، وتتدخل بقوة من أجل تنفيذ أجندتها الاستراتيجية بعيدة المدى في سوريا والعراق واليمن وغيرها من الدول العربية، فهل هناك أمل في أن ننتظر موقفا عربيا جماعيا، حتى لو على مستوى الرفض والتنديد، بممارسات إيران في هذا البلد؟
أعتقد أن هناك ضرورة أيضا لفضح ممارسات إيران الطائفية في سوريا عالميا، فالملالي يستعيدون ذاكرة الاستعمار القديم، ويتصرفون على طريقته والعالم يقف موقف المتفرج، ثم يشكو الجميع من اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين.