لعب إيران بالنار ليست عبارتي، ولكنها وردت على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي حذر الملالي من الاستمرار في سياستهم، وأن يدركوا الفارق بينه وبين سلفه الرئيس السابق أوباما “الطيب”على حد قوله.
الآن وقد اشتعلت حرب التصريحات الباردة مجدداً بين طهران وواشنطن على خلفية تجربة صاروخية فاشلة أجرتها إيران مؤخراً، فلا أرى هدفاَ استراتيجياً لهذه التجربة سوى اختبار نوايا إدارة الرئيس ترامب وجس نبضها وفتح ملفات الغزل معها مبكراً من بوابة الاستفزاز!
أثق أن إيران تتحرك بعد أن درست جيداً تجربة وسلوكيات كوريا الشمالية في علاقاتها طيلة السنوات الماضية مع الولايات المتحدة، بل وطورت هذه الإستراتيجية واستفادت من موروث حائك السجاد الإيراني في المفاوضات مع الغرب ونجحت في انتزاع اتفاق نووي استعادت من خلاله الكثير من أموالها وأرصدتها المجمدة في بنوك دولية، كما نجحت في إسالة لعاب الشركات الغربية عبر صفقات مليارية في مجال الطيران المدني وغيره من المجالات التجارية والصناعية.
ما يحدث حالياً من جانب إيران هو نوع من الاستفزاز المحسوب لإدارة ترامب، وهو استفزاز يستهدف تحريك نوايا البيت الأبيض للكشف عن مكنوناته، ومن ثم التقاط الخيط للتعامل معه، وهي إستراتيجية هجومية وليست دفاعية، حيث نلاحظ أن طهران بدأت الاستفزاز قبل أن يتوافر لدى أركان الإدارة الأميركية الجديد الوقت اللازم لدراسة ملف إيران وإعداد البدائل بشأنه جيداً، فالملالي متمرسون في فنون التفاوض والمراوغة والمماطلة والتسويف، ومن ثم فقد شرعوا مبكراً في جعل إدارة ترامب في مربع رد الفعل وليس الفعل، والتقطوا زمام المبادرة عبر هذه التجربة الصاروخية الفاشلة، وهم يدركون أن إدارة ترامب قد لا تمتلك في الوقت الراهن سوى الإدانة والشجب والهجوم الكلامي، وليس بوسعها اتخاذ قرار آخر ولم يمض على وجودها في السلطة سوى أسابيع قلائل، فضلاً عن أنها مشغولة، بل وتلهث خلف الدفاع عن قرارها الخاص بحظر اللاجئين، فضلا عن معركة الجدار مع المكسيك وتوابعها في علاقات شائكة ومعقدة مع جار بحجم المكسيك، القوة الصاعدة في عالم الاقتصاد والتجارة.
يعتقد المراقبون أن العقوبات الجديدة التي فرضتها الإدارة الأميركية على بعض الشركات والأفراد والمؤسسات الإيرانية تغضب الملالي في طهران، ولكن قد يبدو هذا ظاهر الأمور، وباطنها بخلاف ذلك بل هو المقصود تماماً من هذا الاستفزاز المحسوب، فالعقوبات تغضب أيضاً بعض القوى الدولية التي تسعى إلى انفتاح إيران وترى فيه رهاناً تجارياً مضموناً!
يقول الرئيس ترامب أن الإيرانيين لا يقدرون كم كان الرئيس أوباما طيباً معهم، ويؤكد أنه ليس مثله، ولن يمضي على خطاه، وهذا معروف للإيرانيين قبل غيرهم، ولكن الإشكالية أن الملالي يفهمون جيداً مثل هذه التصريحات، وقد سبق لهم التعامل مع رؤساء أميركيين صارمين مثل جورج دبليو بوش، الذي كان أكثر اندفاعاً وجرأة من ترامب، وأعتقد أن الأخير يمتلك استراتيجية مغايرة لاندفاع بوش الابن، فترامب يجيد المساومة ويحترف فنون المراوغة شأنه شأن الإيرانيين، ولهذا قد يتمتع العالم بمعركة تفاوضية مثيرة طيلة سنوات حكم الرئيس ترامب، فالمفاوض الإيراني ماهر في المماطلة والتملص ويمتلك الكثير من الصبر، الذي ربما يبلغ حداً لا يطاق، بينما الرئيس ترامب رجل أعمال كبير قبل أن يكون رئيساً لأقوى دولة في العالم، ومن ثم فهو يجيد اصطياد الصفقات والإعداد الجيد لها، ويعرف هذه النوعية من المفاوضين تماماً، ويجيد التعامل معهم، وأعتقد أنهم لن ينجحوا في استفزازه، بل هو من قد يجيد هذه اللعبة معهم نظراً إلى أنه يمتلك الكاريزما والشعوبية التي تتيح له اللعب بمهارة في مربع الاستفزاز الشعبوي دعائياً وإعلامياً.
اللعب بالنار ليست عبارة جديدة على قاموس الخطاب السياسي الأميركي تجاه إيران، وقد تكررت قبل ذلك على لسان أكثر من رئيس ومسؤول أميركي بعبارات ومفردات مماثلة وبالمفردات ذاتها مرات عديدة، وبالتالي فلن تخيف الملالي ولن تدفعهم إلى التراجع، بل ربما تدفعهم إلى التقدم خطوة نحو الأمام وليس شرطاً من خلال تجربة صاروخية أخرى، بل من الوارد أن يكون التقدم في ملف مثل سوريا أو غيرها، وذلك كله ضمن لعبة عض الأصابع التي استهلتها إيران بتجربتها الصاروخية، وهي تجيد هذه اللعبة فوق ما يتخيله العالم، وتصل بها أحياناً إلى استراتيجية حافة الهاوية، ثم لا تلبث أن تتراجع او يتراجع خصومها!
ليس علينا في منطقة الخليج العربي أن نكتفي بمتابعة هذه المباراة الاستراتيجية خلال الفترة المقبلة، فالمتابعة طيلة سنوات سابقة قد أفقدتنا الكثير من دورنا وفرصنا في امتلاك زمام المبادرة والمبادأة، وبالتالي لا يجب أن نستمتع بهذه اللعبة كثيراً، وعلينا أن نحدد مسارات تحركنا بغض النظر عن طبيعة الحرب الباردة أو حتى مؤشرات الحرب الساخنة التي يمكن أن تندلع بين إيران والولايات المتحدة.
مصالح دول مجلس التعاون يُفترض أن لها علاقة وثيقة بمسار العلاقات الإيرانيةـ الأميركية، ولكني اعتقد أنه من غير الصواب الاكتفاء بانتظار دور أميركي يلجم إيران أو يحد من نفوذها وتوسعها الاستراتيجي، حتى لا نفاجأ بتفاهمات أو حسابات مصالح تؤثر سلباً في علاقاتنا مع الشريك الاستراتيجي الأميركي، ولذا يجب أن نتحرك وفق مصالحنا في دول مجلس التعاون وليس وفق اتجاهات العلاقات الإيرانيةـ الأميركية، وعلينا أن نحدد بدقة ما نريده من إدارة ترامب إقليمياً، ونعيد صياغة علاقات الشراكة الاستراتيجية وفق شبكة مصالح متبادلة لا تتأثر كثيراً بالمكائد الإيرانية.
المصالح الاستراتيجية الأميركية متغيرة، وكذلك مصالحنا ومصالح الملالي على الشاطئ الآخر من الخليج العربي، ومن ثم فإنه علينا بلورة بدائل مبتكرة للتحرك والتفكير خارج الصندوق في مستقبل العلاقات مع الشريك الاستراتيجي الأميركي، مع الأخذ بعين الاعتبار المعطيات كافة، التي تخص مستقبل الطاقة، والتوجه الانعزالي الأميركي ومساراته، وكذلك العلاقات الأميركية الصينية ومستقبلها، وطموحات إيران التوسعية وسبل التعامل معها، وأدوار القوى الإقليمية الأخرى ذات العلاقة في أمن الخليج العربي مثل تركيا والهند وباكستان ومصر، علماً أن حسابات إسرائيل يجب أن توضع في الاعتبار لأن تجاهلها لن يغير من الواقع الاستراتيجي شيئاً بل قد يكون مضراً ومخلاً بأي حسابات استراتيجية يفترض فيها التعامل مع كافة المعطيات بغض النظر عن موقفنا حيالها.