تابعت بدقة خلال الفترة الماضية تصريحات القادة والمسؤولين الإيرانيين بشأن الرد على مواقف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولفت انتباهي من بين هذه التصريحات ماورد على لسان الرئيس الايراني حسن روحاني، الذي اعتبر أن ترامب "حديث عهد بالسياسة"وأن "أجواء السياسة جديدة بالنسبة إليه"وأن أمامه بعض الوقت كي يدرك هو ومن حوله ما يتعين عليهم فعله، وهذا الأمر سيستغرق وقتاً وطويلاً بنظر روحاني!!
لا يهمني، ككاتب، إن كان الملالي يسبون ترامب أو العكس، ولكن مايهمني هو المدركات والتصورات المتبادلة لدى الطرفين، كي نفهم مايدور من حولنا، وهنا أشير إلى أن فهم الملالي لترامب، بحسب ما استنتجت من مجمل تصريحاتهم، أنه "تاجر"أو رجل أعمال قادم من عالم البزنس والصفقات التجارية، وهذا صحيح وأنا افهم ذلك جيداً بل ذكرت في مقالاتي السابقة جميعها أن الرجل يتحدث بلغة الصفقات التجارية، ولكن ما رأيت أنه غباء سياسي هو أن الملالي يعتقدون أن ترامب لا يفهم في السياسة وأن أمامه الكثير من أجل فهم ديناميات العلاقات الدولية، وهذا نوع من الغباء أو أنه ادعاء للغباء بهدف استدراج الإدارة الأمريكية الجديدة لصدام عسكري مع إيران، ولا أرجح شخصياً، أن الملالي جاهزون لمثل هذا الصدام، بل وأكاد أجزم أنهم غير قادرون عليه رغم ثقتي بأنهم لا يعبأون بتكلفة مثل هذا الصدام على الشعب الايراني، فهم لا يدركون على سبيل المثال أن نظامهم قد يكون الهدف المباشر لأي تحرك عسكري أمريكي محتمل، ولكن يكون الأمر كما كان عليه الحال في تدخلات عسكرية أمريكية سابقة في المنطقة وغيرها!.
الملالي يراهنون على الحس التجاري والميل لعقد الصفقات لدى ترامب، وهذا وارد والكثيرون في العالم يراهنون عليه، ولكن الفكرة القائلة بأن القادم الجديد للبيت البيض لا يفهم في السياسة فهذا أمر غارق في الغباء، لأن من يتولى رئاسة دولة بحجم الولايات المتحدة ويخوض معركة انتخابية شرسة كالتي خاضها هذا الرجل، وانتصر فيها على مرشحة ديمقراطية متمرسة في السياسة يساندها الاعلام والنخب الأمريكي، لابد وأن يكون لاعباً سياسياً محترفاً، ولا أقول ماهراً، فهذه بخلاف تلك!.
في السياسة كما في كرة القدم، مدارس وطرق مختلفة، ووجود رئيس أمريكي من دون خلفية سياسة ليست سابقة في التاريخ الأمريكي، فهناك ممثلون ورجال أعمال وغيرهم كثر وصلوا للبيت الأبيض عبر صناديق الاقتراع، وهذه مسألة ليست عابرة بالمرة، وما يؤكد لي أن رؤية الملالي للإدارة الأمريكية الجديدة تعاني قصوراً شديداً أنهم لا يكتفون باعتبار ترامب نفسه تاجراً مبتدئاً في السياسة، بل يرون أن أركان إدارته على شاكلته، وهذا الأمر لفت انتباهي بحد ذاته من زاويتين أولهما أن عالم السياسة لم يعد منفصلاً عن عالم البزنس وأن الاقتصاد السياسي هو المحرك الأول للعلاقات الدولية، فالنظام العالمي القائم ذاتم قائم على هذا الأساس منذ اتفاقية "بريتون وودز"Bretton Woods ، بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور نظام نقدي عالمي لا تزال الكثير من معالمه هي الأساس في العلاقات الدولية والتبادلات التجارية القائمة حتى الآن. أما الزاوية الثانية في حديث الملالي أنهم ينتقدون وجود رئيس أمريكي ذا خلفية تجارية على رأس دولة ولا يرون إشكالية في وجود "عمامة"بدرجاتها الدينية المختلفة المعتمدة من "قم"وتوفر للملالي القاب مثل "حجة الله"و"آية الله"و"آية الله العظمى"وغيرها، وتتركز خلفياته في العلوم الفقهية والنظريات الطائفية ليس فقط على رأس دولة مثل إيران، ولكن على كل كرسي من كراسي مؤسساتها السياسية بل والعلمية مثل الجامعات والأكاديميات وغيرها!.
هذه الأفكار المغلوطة تبدو غريبة، وهي ذاتها الأفكار التي تسيطر على جماعات وتنظيمات الارهاب السنية، فنجد شاباً غريب الأطوار لم يقرأ في حياته سوى بعض الكتب القديمة، وسيطرت عليه نزعات القيادة وارتفعت لديه "الأنا"وتوهم أنه قائد يضاهي قادة الإسلام العظام، وينشى تنظيماً يدمر به مقدرات ومصالح شعوب إسلامية بأكملها بسبب مثل هذا الغباء المسيطر على النفوس.
المثير للسخرية في تصريحات روحاني أن ارتدي ثوب المعلم ليذكر الرئيس الأمريكي بأن عالم اليوم هو عالم اتصالات وتبادل أفكار وأن عهد بناء الأسوار قد ولى وذهب، وهذا كلام صحيح ولا غبار عليه، ولكن الإشكالية تكمن في من يقوله!! فالكلام مثلما ينطبق على ترامب ينطبق على الملالي، ويفترض أنهم أولى به قبل أن يعلمون به الآخرين، فأين علاقاتهم واتصالاتهم الايجابية مع دول جوارهم حتى نقول أنهم يؤمنون بالحوار والتعاون الدولي!! فهم لا يصدرون لجيرانهم سوى ميلشيات الحشد الشيعي الطائفي البغيض، ولا أحد يسمع منهم سوى صيحات التهديد والوعيد بالاستيلاء على العواصم واجتياح المدن العربية!! ولا أحد يسمع عن تجارتهم سوى الأسلحة وتصدير الارهابيين في منطقة واسعة تشمل اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيرها!!
ألا يبدو الملا حسن روحاني هنا كمن قال المولى عزوجل فيهم أنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم؟ أيعقل أن دولة تزعم الدفاع عن الإسلام تقوم بكل هذا التطهير العرقي على أساس ديني في مناطق معروفة وعلى رؤوس الأشهاد في مدن سوريا والعراق؟ من ناحيتي أرى ان إشكالية الملالي مع الحضارة والقيم الانسانية أعمق بكثير من نزعات ترامب الشعوبية، فهو في الأخير يتمترس خلف حدود بلاده ويريد أن يمنع الآخرين من دخولها، وهذه معركته مع شعبه ودولته التي قامت على أساس فلسفي وفكري معلوم، والقيم هي اغلى ماتصدره للعالم والانسانية، وبالتالي فهي معركة نتائجها واضحة بالنسبة لي وللكثيرين، أما الملالي فهم يعملون على إعادة هندسة الديمغرافيا والهويات الوطنية للدول خارج بلادهم!! هم يريدون التحكم في شعوب العراق وسوريا واليمن وليتهم اقتصروا على الشعب الايراني وحدود بلادهم ومنعوا العالم كله من دخولها لكان امرهم أهون بكثير، بل كان العالم سيرحب بذلك ويكفيه أنهم سيكفون الجميع شرورهم!!.