يتابع العالم أجمع تصاعد وتيرة الخطاب السياسي والتهديدات المتبادلة بين النظام الإيراني والرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث تقترب التهديدات من مظاهر الحرب الباردة التي سادت طيلة عقود خلال النصف الثاني من القرن العشرين بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق.
ويمكن رصد مظاهر التصعيد هذه من خلال نبرة الخطاب المتبادل، فالرئيس ترامب حذر، الجمعة الموافق للعاشر من فبراير الجاري، نظيره الإيراني ودعاه مباشرة إلى الحذر في كلامه، وذلك ردا على تصريحات قال فيها الأخير إن أي شخص يهدد الإيرانيين سيندم، وقال ترامب موجها حديثه إلى الرئيس الإيراني “احترس من فضلك”.
يحلو لبعض المراقبين القياس على النموذج الأشهر تاريخيا للحرب الباردة في بناء استنتاجات تخص العلاقات الأميركيةـ الإيرانية، وهذا صحيح جزئيا ولكن هناك جوانب اختلاف عميقة بين الحالتين، أبرزها أن الإيرانيين ليسوا في خبرة وحنكة نيكيتا خروشوف، ولا ترامب في هدوء وخبرة جون كينيدي. كما أن فارق القدرات سواء في موازين القوى العسكرية أو في الثقل والمكانة الدولية بين إيران والولايات المتحدة الآن ليس في صالح الأزمة المتصاعدة، فهناك فارق هائل وبيّن في القدرات العسكرية، وهذا الفارق يعدّ سلاحا ذا حدين؛ فإما أن يقود طهران تحديدا إلى تحكيم لغة العقل والمنطق، وإمّا يغريها بالتهور والاندفاع تحت ضغط فكرة الخوف والقلق من انتظار ضربة مفاجئة من الطرف الآخر.
اعتبرت صحيفة الأندبندنت البريطانية أن ترامب سيشعل حربا مع إيران. وأن هذه الحرب تصبّ في مصلحة تنظيم داعش، مشيرة إلى أن ترامب ربما يستلهم سياسات رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل عام 1940 في تعامله مع إيران. لكن الصحيفة لفتت الانتباه إلى جزئية مهمة وهي أن ترامب مهتم بمطالعة كتب التاريخ ودراستها أكثر من اهتمامه بالأحداث الجارية خلال العصر الحالي. وقالت إن منطقة الشرق الأوسط “تتسم بأنها ساحة قابلة لاشتعال المعارك بشكل أكبر من أي منطقة أخرى في العالم وإن الأخطاء التي ترتكب خلالها تكون كارثية ولا يمكن إصلاحها”. ونصحت الصحيفة الرئيس الأميركي بألّا يعمل على الانضمام إلى صفوف القادة الغربيين الذين تعرضوا لخسائر فادحة بسبب قراراتهم الخاطئة في الشرق الأوسط. وأشارت إلى أن هزائم هؤلاء القادة لم تكن بسبب تفوّق الطرف الآخر عليهم عسكريا، بل لأسباب أخرى أخلاقية وإنسانية مثلما حدث لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق أنتوني إيدن خلال أزمة السويس بمصر عام 1956. وذكّرته أيضا بتجربتي كارتر في أزمة الرهائن الأميركيين في طهران عام 1979، والتدخل الأميركي في الحرب الأهلية اللبنانية خلال عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان عام 1983.
تحليل الأندبندنت يتعلق بالأساس بتوجيه ضربة عسكرية أميركية إلى إيران، وهذا أمر مستبعد إلى حدّ كبير. ولكن الإشكالية الأخطر في وجود احتمالية عالية لوجود حالة من سوء الإدراك المتبادل تؤدّي بدورها إلى نشوب حرب عن طريق الخطأ، أو الاستدراج إليها، أو حرب الأمر الواقع. والأخطاء في حالات التوتر الشديدة قائمة وموجودة، بل كادت تتسبب في حرب عالمية ثالثة إبان أزمة الصواريخ الكوبية.
الواضح أن التصعيد الكلامي المتبادل بين النظام الإيراني وإدارة الرئيس ترامب كان يستهدف في البداية جسّ نبض كل طرف للآخر، وكان ذلك من الوضوح إلى درجة أن واشنطن حذرت طهران من جسّ نبض الرئيس الجديد. ويبدو أن الأمر انتقل إلى استنساخ أزمات سابقة مرت بها علاقات البلدين. واتُّبِعت خلالها سياسة حافة الهاوية، التي يفضلها النظام الإيراني ويجيد التعامل وفقها، ويمارس خلالها استراتيجية مستمدة من موروث الخبرات التفاوضية التي يستمد بعضها من فنون حياكة السجاد المتجذرة في الثقافة الإيرانية، ويستمد بعضها الآخر من تجارب دول أخرى أهمها كوريا الشمالية، التي سبق أن خاضت، ولا تزال، تجارب مماثلة مع الولايات المتحدة.
أغلب الظن أن الإدارة الأميركية الجديدة تتجه إلى إحكام طوق حصار جديد حول النظام الإيراني، وقد بدأت هذه الاستراتيجية بالفعل من خلال حظر دخول الرعايا الإيرانيين إلى الولايات المتحدة. ورغم تجميد هذا الحظر قضائيا، فإن ترامب يتجه إلى تنفيذه عبر آليات أخرى، كما تقوم إدارته بدراسة إدراج الحرس الثوري الإيراني ضمن لائحة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، في سابقة هي الأولى، لكونها المرة الأولى التي يتم فيها تصنيف مؤسسة رسمية في دولة ما ضمن هذه اللائحة، وسيكون القرار النهائي لإدارة ترامب في هذا الشأن مؤشرا قويا على نواياها المستقبلية حيال إيران، ولا سيما أن هذه الخطوة قد تعجّل بالصدام بين الطرفين نظرا إلى قوة تأثير الحرس الثوري في السياسة الإيرانية.
أما تلويح الرئيس ترامب بعدم استبعاد الخيار العسكري في التعامل مع إيران، فهو أمر ليس بطارئ، ولا بجديد، فقد سبق أن لوّح به الرؤساء الأميركيون ضدّ إيران، ولم يستخدمه أي منهم لأسباب واعتبارات معقدة. وإن كان الرئيس ترامب يختلف عن سابقيه في كونه لا يحترف المناورة والدهاء كثيرا، وهو رجل عملي واقعي بحكم خلفيته كرجل أعمال، وبالتالي قد لا تكون لديه القدرة على الصبر حيال ممارسات الإيرانيين وتجاوزهم وانتهاكاتهم المتواصلة للقوانين الدولية ومحاولة كسر هيبة الولايات المتحدة، باعتبارها القطب المهيمن على النظام العالمي القائم، وهذه الجزئية تحديدا تظل قيد نوايا طهران وحساباتها في التعامل مع إدارة الرئيس ترامب.
من الصعب استدراج الرئيس الأميركي إلى حرب لا ترغب فيها بلاده، ولكن من المؤكد أنه صارم وحازم بخلاف سابقيه، والفارق بينه وبين سلفه الرئيس السابق باراك أوباما كبير، ومن الوارد أن يقع الإيرانيون في سوء تقدير لهذا الفارق، ومن ثمّ يفرضون على الرئيس ترامب حربا لا يرغب فيها، وهذا احتمال قائم، ولكن بدرجة ضعيفة.