قام الرئيس الإيراني حسن روحاني بجولة إقليمية شملت سلطنة عمان ودولة الكويت، حيث قيل إن الجولة تستهدف “تقريب وجهات النظر” بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، وأعلن ترحيبه بالرسالة التي تلقاها من دول المجلس عبر دولة الكويت.
البعض رأى في تصريحات روحاني نوعا من حسن النوايا، ويشيرون في ذلك إلى أنه تحدث عن “حسن الجوار” وضمانات الأمن بالمنطقة، وأن إيران لم، ولن، تفكر بتاتا في الاعتداء على دولة أخرى أو تتدخل في شؤونها الداخلية، كما أكد أن إيران لا تريد فرض عقيدتها المذهبية على الآخرين، وأنها تطمع في التعاون المشترك مع دول الجوار.
هذا الخطاب المخادع لا يقر به سوى من يمتلك ذاكرة الأسماك، التي تشير أحدث الأبحاث إلى أنها لا تتجاوز أسبوعين في أحسن الأحوال، فهناك ما ينسف هذا الخطاب نسفاً ليس فقط على مستوى الخطاب السياسي الإيراني، ولكن أيضاً عبر الممارسات والسلوكيات اليومية للملالي وحرسهم الثوري. من يتعاطف مع هذا الخطاب يتجاهل أمورا عدة؛ أولها أن حسن روحاني ذاته اختزل في تلك التصريحات كل الخلافات والتباينات القائمة بين نظام الملالي ودول مجلس التعاون في عبارة “سوء فهم”، مؤكداً أن ما يجري في قنوات العلاقة عبر الخليج العربي هو مجرد “سوء فهم”.
هنا من حقي ومن حق غيري إبداء استغراب ودهشة مشروعة: فهل تدبير المكائد والمؤامرات خلال موسم الحج لاتهام السعودية بالفشل في تنظيم موسم الحج هو عبارة عن “سوء فهم”؟ وهل الاستمرار في احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى، سوء فهم؟ وهل التباهي باحتلال عواصم دول عربية ثلاث هو “سوء فهم”؟ وهل تقديم دعم عسكري للميليشيات والوكلاء المتمردين في اليمن لزعزعة الأمن والاستقرار في هذا البلد الشقيق وتكريس النفوذ الإيراني فيه هو “سوء فهم”؟
وهل التدخل عبر الحشد الشيعي في العراق وسوريا ثم التلاعب بالهندسة الديموغرافية لهذين البلدين الشقيقين هو “سوء فهم”؟ وهل تكوين جيش مذهبي يستهدف التدخل في أي دولة من دول المنطقة دفاعاً عمن يصفهم الملالي بالمظلومين من مواطني هذه الدول هو “سوء فهم”؟ وهل استعراضات القوة العسكرية وبناء ترسانات الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى ترهيباً لدول الجوار هما “سوء فهم”؟
وهل الإصرار على التعتيم على البعد العسكري في البرنامج النووي الإيراني ورفض الالتزام بالمعايير والاتفاقات الدولية الخاصة بحظر الانتشار النووي وبناء منشآت نووية تقع بالقرب من عواصم بعض دول مجلس التعاون من دون توافر معايير الرقابة والأمان النووي الكافية هي “سوء فهم”؟ وهل التدخل في شؤون بعض دول المجلس مثل مملكة البحرين، ومحاولة شق الصف الوطني فيها هما نوعان من “سوء الفهم”؟
شخصيا، لا أستطيع حصر جرائم وانتهاكات نظام الملالي في حق دول الجوار خلال السنوات الأخيرة، ولكن مجمل هذه الجرائم والانتهاكات معروفة للكثير من شعوب دول المجلس، ولن تنطلي على أحد ادعـاءات البـراءة التي يتشدق بها المـلالي حين تتكاثر من حولهم الضغوط الدولية فيلجأون إلى تفعيل مبدأ “التقية”، وتنحسر للوراء قليلا لغة الاستعلاء العنصرية التي تسود خطابهم السياسي وسلوكياتهم في الظروف العادية، فأين كانت هذه اللغة حين توالى ظهور قادة الحرس الثوري ورموز الملالي في وسائل الإعلام المختلفة للتباهي بأن نفوذهم قد امتد إلى البحر المتوسط وبحر العرب وأنهم سيطروا على عواصم أربع دول عربية.
هل يحق لنا، كعرب وخليجيين، أن نعيد طرح السؤال المشروع الذي ورد على لسان الرئيس السوداني عمر البشير في حواره المنشور بصحيفة “الاتحاد” الإماراتية، حين قال ما هي العاصمة الأخيرة التي يمكن أن يقف فيها قطار التدخل الإيراني؟
عبارة “سوء الفهم” هذه واحدة من كلاسيكيات الخطاب السياسي الإيراني المراوغ، ونحن في الإمارات، تحديداً، اعتدنا سماعها منذ نحو عقدين من الزمان كلما أثير موضوع الاحتلال الإيراني لجزرنا الثلاث، حيث كان يرد إليها الرد دائما عبر المنصات الرسمية والإعلامية للملالي بأننا على استعداد لحل “سوء الفهم” في هذه القضية.
بمعنى أنهم يختزلون قضية احتلال لأراضي دولة إسلامية أخرى في هذه العبارة المراوغة، ثم يغضبون بعد ذلك حين نقارن بين الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية العربية، بل وتغضب معهم ثلة من العملاء العرب الذين يسوّقون لسياسات طهران ويعملون لمصلحتها ليل نهار، مقابل أموال النفط التي تتدفق إلى جيوبهم بعد أن تُسرق من الشعب الإيراني الذي تعاني قطاعات كبيرة منه ويلات البطالة والفقر والحرمان ويسقطون في هاوية تعاطي المخدرات وغير ذلك من جرائم تتفشى في هذا البلد جراء سياسات الملالي وإسرافهم في الإنفاق على شهوة التوسع المذهبي الإقليمي.
لن أذهب إلى مناقشة حدود صلاحيات الرئيس الإيراني ضمن هرمية السلطة في بلد الملالي كما يحلو لبعض المراقبين أن يفعلوا، فالمسألة لا تتعلق بضعف صلاحيات الرئيس وسيطرة المرشد الأعلى على السياسة الخارجية والداخلية وغير ذلك، بل ترتبط بسياسة توزيع الأدوار التي يجيدها النظام الإيراني في مواجهة أي ضغوط خارجية.
وللتفسير، أشير إلى أن الملالي يتعرضون حاليّا لضغوط قوية من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لذا تبرز على الفور فكرة توزيع الأدوار؛ فنجد روحاني يحاول استمالة دول الجوار وتهدئتها في محاولة للتخفيف من أي دعم إقليمي للتوجه الأميركي الضاغط على الملالي، في حين تُتْرك لقادة الحرس الثوري مهمة مناوشة الإدارة الأميركية وتوجيه تهديدات مضادة لها.
إن ما يحدث الآن هو سيناريو متكرر، فليس هناك جديد في جولة روحاني الأخيرة سوى الرهان على ذاكرة الأسماك.