استغربت كثيراً وأنا اتابع التحليلات ومقالات الرأي المنشورة حول نتائج الانتخابات الرئاسية في إيران، والتي فاز بها الرئيس حسن روحاني بولاية رئاسية ثانية. وسبب استغرابي أن البعض قد ذهب إلى أن فوز روحاني يعبر عن صراع "عميق"(!!) تشهده إيران بين الثورة والدولة!!
دعونا نفصل ونحن نناقش نتائج الانتخابات الإيرانية بين أمرين مهمين هما: الاقبال على الاقتراع من ناحية، ودلالات هذا الاقبال من ناحية ثانية. نعم هناك اقبال، ولكن تفسير هذا الاقبال يخضع لوجهات نظر متعددة.
يمكن أن افهم أن هناك صراع بين المتشددين والأقل تشدداً (أو من يسميهم البعض بالإصلاحيين) من رجال الدين في إيران، ويمكن أن تكون هذه وجهة نظر تفسر الاقبال الكبير من الناخبين على التصويت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والذي بلغت نسبته نحو 60% بحسب الإحصاءات الرسمية المعلنة.
أما القول بأن هناك صراع بين الثورة والدولة، فهذا تحليل يحتاج إلى تحليل! إذ أن المتعارف عليه أن الدول الإيرانية التي نشأت منذ قيام ثورة الخميني عام 1979 هي دولة تابعة وموالية بأكملها للملالي، ولا اعلم، ولا يعلم غيري أن هناك دولة موازية قائمة في إيران! كما يبدو القول بأن دولة ما قبل الثورة الإيرانية، أو دولة الحقبة الشاهنشاهية لا تزال موجودة وتحاول اثبات وجودها بطريقة ما، يبدو مثل هذا القول نوع من العبث والاستخفاف بالعقول!!
من يقول بأن هناك صراع بين الثورة والدولة في إيران عليه أن يقول لنا ماهي معالم "الدولة"التي تسعى لخوض صراع مع رموز إيران "الثورة"؟ علينا أن ندرك أن الثورة الإيرانية عمرها الآن نحو أربعة عقود، أي تجذرت بشكل عميق في المؤسسات الإيرانية الحكومية كافة، على مختلف مستوياتها الدستورية، وبالتالي فالثورة موجودة في جميع هذه المؤسسات، ومسألة صراعها هذه مع "الدولة"مسألة تبدو غريبة!!
الأيديولوجية الثورية الإيرانية تختلف عن نظيرتها في الدول الشيوعية السابقة، ومن الصعوبة بمكان إيجاد قواسم مشتركة بين إيران والنماذج الثورية التاريخية.
روحاني هو بالأساس رجل دين بدرجة "حجة الإسلام"، وهو ابن شرعي للنظام والثورة الإيرانية، والخلاف القائم بينه وبين قادة الحرس الثوري وغيره من التيارات الجامحة في إيران ليس حول المبادئ الثورية الخمينية التي يلتزم بها جميع هؤلاء، ولكنه اختلاف "تكتيكي"وليس "استراتيجي"، فكل ما ينشر من تصريحات وانتقادات متبادلة تعكس تبايناً في الرؤى والخطط التنفيذية لتحقيق أهداف إيران الثورة، وليس حول هذه الأهداف بحد ذاتها!!
الاختلاف التكتيكي هو اختلاف "صحي"بالنسبة للملالي، بل يرحبون به أشد الترحيب، ويوظفونه في تحقيق أهداف السياسة الخارجية والمصالح الاستراتيجية الإيرانية، فوجود الطيف السياسي متباين الشدة والتطرف على الساحة السياسية الإيرانية يوفر للنظام فرصة ثمينة لتطبيق استراتيجية تبادل الأدوار في التعامل مع دول العالم، والنظر للأحداث والتطورات الإقليمية والدولية.
بمعني أن الحرس الثوري يفيد الملالي في بعض الأحيان عندما يتركون الحبل على الغارب لقادته المتطرفين لإطلاق تصريحات ساخنة ضد الدول الأخرى في كثير من الأحيان لإبلاغ رسائل معينة، أو تهديد هذه الدول والتلويح بورقة القوة والحرب!! وبمجرد وصول هذه "الرسائل"نلحظ تدخلاً من الساسة لتهدئة الأجواء والتعبير عن مواقف أقل سخونة، وربما تكون هادئة ومغايرة تماماً لما سبق ان ورد على ألسنة قادة الحرس الثوري!!
تكررت هذه "التمثيلية"في ظروف وتوقيتات كثيرة طيلة السنوات الماضية، فنجد الرئيس روحاني يتحدث عن حسن جوار مزعوم مع دول مجلس التعاون وضرورة تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، بينما سبقه بفترة وجيزة تصريحات تزعم ملكية دول بأكملها وتبعيتها السيادية لإيران، فضلاً عن تباهي بعض الملالي المتطرفين باحتلال أربع عواصم عربية علناً من دون أن نجد تصريحات رسمياً إيرانياً واحداً يصحح هذه التجاوزات السياسية ويضع الأمور في نصابها ويعلن عن وجود "دولة"في إيران وليست ثورة بل مجموعات وشراذم تنتمي إلى تيار أيديولوجي واحد يختلف فيه الأشخاص باختلاف مصالحهم وسماتهم الشخصية، بل وطبيعة دورهم في هذا النظام!!
خيوط اللعبة في إيران تتجمع بأكملها بيد المرشد الأعلى، او ولي الفقيه، الذي يمثل السلطة الأعلى في هرمية النظام الثيوقراطي الإيراني،فهو من يمسك بهذه الخيوط ويحركها كما يريد في هذا الاتجاه أو ذاك، وبالتالي يطلق العنان لصوت التشدد في بعض الأحيان، بينما يتيح الفرصة لمن يظهرون بمظهر "الاعتدال"ويلعبون ورقة السياسة لا القوة في أحيان أخرى، والفيصل الفارق بين هذا وذاك هو مصلحة النظام الثوري ومستقبله، وليس مصالح هذا الفريق أو ذاك.
قناعتي الشخصية أن فوز حسن روحاني في انتخابات الرئاسة الإيرانية هو رسالة تهدئة تستهدف تخفيف الضغوط الإقليمية والدولية المتصاعدة على النظام الإيراني، ولو أن المرشد لم يكن يريد وجود روحاني في ولاية رئاسية ثانية، لم يكن يتورع عن تزوير هذه الانتخابات كما حدث مع الرئيس السابق أحمدي نجاد، ومن يقول بغير ذلك فهو ضحية لدعاية النظام الإيراني بشأن "الديمقراطية"الإيرانية!!
الدليل على ما أقول إن الاتفاق النووي مع الغرب قد حصل على ضوء أخضر من المرشد، الذي هاجمه بطريقة لافتة، دفعت البعض للقول بأنه غير راض عنه! ولم يفطن هؤلاء إلى أن المرشد يحاول إيهام الغرب بموقفه للضغط من أجل انتزاع مزيد من المكاسب والتطبيق الكامل لبنود هذا الاتفاق. الخلاصة أن مراقبي الشأن الإيراني يدركون أن الرئيس روحاني لم يوقع هذا الاتفاق متجاوزاً رغبة المرشد، فهذا الأمر مستبعد تماماً، حتى لو كان روحاني منتخباً بنسبة مائة بالمائة من الناخبين الإيرانيين!!
علينا أن نفهم شبكة العلاقات الحاكمة لأضلاع النظام الإيراني جيداً كي نفهم ما يدور وراء الكواليس، وما يصدر عن رموز الملالي في مختلف المناسبات.
منذ عام 1979، لم تصل إيران إلى مفهوم "الدولة"ولا تزال تسكنها فكرة "الثورة"، والنقاشات البحثية حول المفهومين اندثرت وانطوت صفحتها منذ سنوات مضت،بعد أن استقرت الأمور لمصلحة الثورة، ولا تلوح في الأفق أي مؤشرات لولوج مرحلة الدولة!!