يدرك أي متخصص أو باحث حقيقة نوايا إيران وأهدافها من التوسع في سوريا وصولاً إلى شواطئ البحر المتوسط، حيث يسعى نظام الملالي إلى امتلاك أداة ضغط قوية على الغرب عبر توسيع نفوذه ودوره في دول أخرى، كما يقوم الحرس الثوري الإيراني بتنفيذ إستراتيجية قائمة على خوض الحروب بالوكالة ونقل الصراعات إلى فضاءات أخرى.
هذه الإستراتيجية تتآمر على مستقبل شعوب المنطقة، وتضحي بأمن واستقرار الملايين من العرب مقابل تحقق أحلام الملالي وبناء إمبراطوريتهم المزعومة، فضلاً عن تحقق رغبتهم الدفينة في استدعاء عداوات الماضي البعيد والانتقام للفرس من الهزائم التاريخية التي تلقوها على يد العرب في صدر الإسلام، رغم أن هؤلاء الملالي يرفعون شعارات إسلامية ولا يكفون عن الحديث عن الدفاع عن الإسلام والمسلمين.
وقد شهدت احتفالات ذكرى الثورة الخمينية مؤخراً براهين كاشفة عن نوايا نظام الملالي ونمط تفكيره، حيث أكد مساعد وزير الدفاع الإيراني للشؤون البرلمانية، العميد رضا طلايي أن «الجمهورية الإسلامية ستستهدف جميع المعسكرات الأمريكية في سوريا والمنطقة في حال ارتكاب الولايات المتحدة «خطأ ما» تجاهها، وزعم أن الولايات المتحدة وإسرائيل أرادتا أن «تجعلا سوريا تابعة لهما وللسعودية، لكن قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني والمتطوعين لقنوهم درساً جعلهم يندمون».
وقال طلايي إن «جميع القواعد الأمريكية في المنطقة تقع في مرمى أسلحتنا وإذا ارتكبت واشنطن أي حماقة تجاهنا سنستهدف قواعدها من داخل إيران»، وهذا التصريح تحديداً ينطوي على جوهر الكذبة التي يريد إخفاءها، فقد ذكر أن استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة سيتم «من داخل إيران» مع أن أحداً لم يسأله إن كان ذلك سيتم من داخل إيران من دول أخرى عبر وكلائها الطائفيين سواء في سوريا أو لبنان؟ وكأنه يستشعر مدى كذبه، فأراد أن يصرف الأنظار عن الحقيقة بالإشارة إلى هذا الأمر!
لم يكن هذا التصريح هو وحده ما صدر عن رموز نظام الملالي في ذكرى الثورة الخمينية، بل كان هناك أيضاً تهديد على لسان مساعد قائد الحرس الثوري الإيراني يدالله جواني بـ»محو تل أبيب وحيفا من وجه الأرض إذا أقدمت الولايات المتحدة على إطلاق رصاصة واحدة صوبنا».
لم تتأخر حكومة نتيناهو عن الرد بطبيعة الحال، بل بدت وكأنها تنتظر هذه التصريح الإيراني، الذي تلقفه رئيس الوزراء بنيامين نتيناهو ورد عليه بتهديد مماثل بأن «هذه الذكرى لانتصار الثورة الإسلامية ستكون الأخيرة التي تحتفل بها إيران في حال إقدامها على مهاجمة تل أبيب أو حيفا»، وأضاف «لا أتجاهل التهديدات التي يطلقها النظام الإيراني ولكنني لا أتأثر بها». وأضاف نتنياهو مشدداً: «إذا ارتكب هذا النظام الخطأ الفادح وحاول تدمير تل أبيب وحيفا فإنه لن ينجح في ذلك، وهذه الذكرى ستكون الأخيرة التي يحتفل بها. عليه أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار».
الحقيقة أن هذه التهديدات المتبادلة ليست سوى كلام في الهواء، وقد أثبتت الأحداث في سوريا أن نظام الملالي وحكومة نتنياهو يمارسان الخداع التكتيكي وأن ما بينهما من تلاق في المصالح أكبر مما بينهما من عداء معلن، يستغلاه في تحقيق أهداف إستراتيجية، فالملالي يريدون إحكام قبضتهم في سوريا والإبقاء على نفوذهم الإستراتيجي هناك، فيما يريد نتيناهو «شرعنة» الاحتلال الإسرائيلي للجولان المحتل، وانتزاع اعتراف من الولايات المتحدة بهذا الاحتلال بذريعة ضمان إسرائيل في ظل تمركز الحرس الثوري الإيراني على الحدود الإيرانية السورية، وهكذا يصعّد كل منهما خطابه تجاه الآخر، ولا يكتفيان بالمستوى الكلامي أو الخطابي، بل يصّعدان عسكرياً في إطار ممارسات «مسرحية» محسوبة بدقة، يطلق خلالها الحرس الثوري بين الفينة والأخرى قذائف طائشة لا تسفر عن أي خسائر في الأرواح ولا المباني، وترد عليه إسرائيل بهجمات صاروخية أو جوية لا تسمن ولا تغني من جوع، بزعم استهداف قواعد ميلشيات الحرس الثوري في سوريا، يقدم كل منهما خدمات إستراتيجية للآخر على حساب مصالح الدولة والشعب والسوري، الذي يبدو الخاسر الأكبر في ظل نوايا إيران البقاء في سوريا لأمد غير معلوم!
الحقيقة أن كلاً من نظام الملالي وحكومة نتنياهو يدركان جيداً قواعد اللعبة، ويتمسكان بقوة بالخطوط الحمراء التي تمنع تحول العداء الظاهري بين النظامين إلى حرب حقيقية بسبب سوء أخطاء محتملة في التنفيذ أو سوء إدراك من جانب القادة الميدانيين، قد يؤدي إلى جلب ضغوط من الرأي العام الإسرائيلي للرد على هجمات إيرانية أو غير ذلك.
الحقيقة أنه منذ قيام الثورة الخمينية والعالم كله يتابع شعارات العداء لأمريكا وإسرائيل، ولم تمنع هذه الشعارات من جلوس المفاوضين الإيرانيين مع نظرائهم الأمريكيين لتوقيع الاتفاق النووي عام 2015، كما لم تمنعهم من التعاون سراً مع إسرائيل في شراء الأسلحة إبان سنوات الحرب مع العراق! فهي شعارات لتجميل وجه نظام يمارس الخداع على الملايين من أتباعه، في الداخل والخارج.
والحقيقة أيضاً أن نظام الملالي لا يضمر الشر سوى لدول الجوار الخليجي، وليس مستعداً لخوض حروب سوى ضد هذه الدول المجاورة، التي ينظر إليها بِغل وحقد فارسي قومي لم تفلح العقود والقرون في مداواته، كما ينظر إليها باستعلاء ويعتبر أن استمرار هذه الدول في بناء نموذج لدولة الرفاهية وتوظيف مواردها النفطية في إسعاد شعوبها، بمنزلة عنصر ضغط هائل على رموز النظام الذي يسخِّر كل موارد إيران النفطية من أجل تحقيق مشروعات استعمارية توسعية لا ناقة للشعب الإيراني فيها ولا جمل، ولم تجلب لملايين الإيرانيين سوى المزيد من البطالة والإحباط والتدهور البيئي والمعيشي والاقتصادي، وانهيار البنى التحتية!