كثيرون يتوقعون نشوب صراع عسكري أمريكي - إيراني في منطقة الخليج العربي بسبب تطبيق المرحلة الثانية من خطة «صفر صادرات» الأمريكية على النفط الإيراني، وهناك من يمارس الدعاية المجانية لنظام الملالي ويردد، كالببغاء، تصريحاته القائلة بحتمية الرد على أي تصرف أمريكي منع تصدير النفط الإيراني إلى الخارج!
الحقيقة المؤكدة، من وجهة نظري المتواضعة على الأقل، أن النظام الإيراني لا يستطيع خوض أي صراع عسكري مع الولايات المتحدة وحلفائها، لسبب بسيط هو انتفاء ما يقول به البعض بأن الملالي لم يعد لديهم ما يخسرون في هذا الصراع، فالحقيقة أيضاً أن لديهم الكثير الذي يمكن أن يخسرونه وفي مقدمة ذلك تأتي السلطة والنفوذ والحكم! فرغم التأثيرات القاسية لحظر تصدير النفط الإيراني فإن حكم الدولة الإيرانية يبقى قائماً بيد الملالي فلمَ يجازفون بخسارته لو خاضوا حرباً ستضعهم حتماً بين فكي كماشة إحداهما من الخارج والثانية من الداخل متمثلة في الشعب الإيراني ذاته، الذي يتحين فرصة كهذه للانقضاض على هذا النظام الذي يحكم بالحديد والنار!
صحيح أن نظام الملالي يخشى السقوط والانهيار ولكنه يدرك بالمقابل أن الرئيس ترامب رجل صفقات ولا يريد خوض صراعات عسكرية قد تكلفه الفترة الثانية من رئاسته، وهنا تبرز لعبة عض الاصبع بقوة، والأكثر مغامرة وتهوراً هو من سيحقق أهدافه.
يدرك نظام الملالي أن الحرب النفسية والدعاية أحد أسلحة المواجهة مع الولايات المتحدة بشكل عام، ولديه تجارب طويلة خلال العقود والسنوات الماضي في هذا الإطار، ويدرك كذلك أن إدارة الرئيس ترامب تعتمد على سياسة حافة الهاوية بشكل كبير، حيث تابع العالم أجمع كيف انتقل الرئيس ترامب من مربع التهديد بشن حرب نووية ضد كوريا الشمالية والتفاخر بالزر النووي الذي يتوفق على نظيره الذي يمتلكه الزعيم كيم جونغ اون، إلى الجلوس معه وعقد قمة تلو الأخرى مع من انتقل من دائرة العدو إلى دائرة «الصديق»، الذي بات يتلقى منه رسائل «رائعة» ويبدي استعداداً لعقد قمة ثالثة معه رغم انسحابه من القمة الثانية بسبب عدم تقديم أي تنازلات من الطرف الكوري الشمالي!
هذا الإدراك والدروس المستفادة من تجربة كوريا الشمالية، يقف وراء حرص نظام الملالي على نشر ادعاءات حول قدراته العسكرية والتلويح بأن حاملات الطائرات الأمريكية يجري تصويرها بالطائرات الإيرانية من دون طيار وغير ذلك مما نشرته وسائل الدعاية الإيرانية في الأيام الأخيرة، ولكن الحقيقة أن نظام الملالي أول من يدرك أن تهديداته بإغلاق مضيق هرمز ليست قابلة للتنفيذ على أرض الواقع لسبب لا يتعلق بالقدرات العملياتية والخططية، ولا حتى بقدرات الجيش الأمريكي، ولكن لأن المضيق ممر مائي دولي وأي تهديد بإغلاقه يمثل إعلان حرب ضد العالم أجمع، فالمضيق تمر منه ما بين 30 - 40 % من تجارة النفط الدولية، ولا توجد بدائل متاحة له حالياً وإغلاقه يعني حرمان الدول من احتياجاتها اليومية من نفط منطقة الخليج العربي، وما يعنيه ذلك من تأثيرات هائلة واضطرابات وقفزات في الأسعار. تهديدات إيران بإغلاق المضيق متكررة طيلة السنوات الماضية، ولكنها غير قابلة للتنفيذ وتبقى في دائرة التهديد باعتبارها أحد أوراق الضغط التي يضعها صانعو القرار في اعتبارهم لأن النظام الإيراني بالأخير هو نظام انتحاري متهور يصعب التنبؤ بتصرفاته أو سيطرة الحكمة والعقل على سلوكه السياسي والعسكري، خصوصاً في ظل وجود مؤسسات عسكرية ميلشياوية تعمل خارج النسق الرسمي لصناعة قرار الدولة الإيرانية، وفي مقدمة ذلك يأتي الحرس الثوري الذي يمكن لقادته افتعال صراع عسكري وتوريط الشعب الإيراني في حرب مع الولايات المتحدة بغض النظر عن تأثيرات ذلك وعواقبه، وهي مسألة يأخذها صانع القرار الأمريكي بالاعتبار جيداً بكل تأكيد، وهذا يفسر إلى حد كبير عدم صدور رد فعل أمريكي حتى الآن على استمرار تصدير النفط الإيراني رغم سريان قرار حظر التصدير منذ الثاني من مايو الجاري.
صمت الإدارة الأمريكي في التوقيت الراهن إزاء استمرار إيران في تصدير نفطها وتجاهل القرار الأمريكي، لا يعني التراجع أو التساهل بل من المؤكد أن هناك دراسة لكل الاحتمالات، حيث لا ترغب إدارة الرئيس ترامب في الوقوع في فخ هذا النظام الانتحاري الذي يريد استدراجها لصراع عسكري يتمناه ويرغب فيه، فهو نظام يقتات على الأزمات، ولكن لو أن قادته أدركوا أن هناك مفاضلة بين بقاء نظامهم وبين الحرب لاختاروا فوراً تقديم تنازلات للولايات المتحدة، وهذا ما اعتقد أن الإدارة الأمريكية تفكر فيه حالياً، وهو كيف يمكن خنق النظام ذاته بدون الوقوع في فخ الاستدراج العسكري، لأن خنق النظام سيجبره على تقديم التنازلات والعودة إلى السلوك الطبيعي والتخلي عن مخططاته التوسعية.