هناك قاعدة تقول "ابحث عن المستفيد" في أي جريمة تتوصل بسهولة إلى الجاني، والنظام الإيراني يدرك ذلك جيداً فكل الدول والأنظمة تسعى في حال تورطها في ارتكاب جريمة كبرى تنذر بوقوع حرب شاملة، أن تصور للعالم أن هناك طرف أو أطراف غيرها تسعى لإشعال حرب لا تريدها! والحقيقة أنه في الحالة الإيرانية تحديداً هناك ترديد لمزاعم زائفة كثيرة، فأي تحليل موضوعي لبيئة الصراع والأزمة الراهنة في منطقة الخليج العربي، يشير إلى أن المستفيد الأساسي من نشوب حرب في منطقتنا هو نظام الملالي الإيراني، الذي يدرك تماماً خطورة الانتظار حتى تؤتي العقوبات الاقتصادية الأمريكية مفعولها كاملاً.
نظام الملالي الإيراني يدرك أن هذه العقوبات المدمرة ستؤدي إلى انهيار النظام وتآكله داخلياً وسقوطه بأيدي الشعب الإيراني لا بيد غيره، ومن ثم فهو يعمل جاهداً على اثارة أكثر قدر ممكن من اللغط حول الأزمة ويدفع بقوة باتجاه إشعال صراع عسكري يراه السيناريو الأفضل بالنسبة له مقارنة بالأثر المؤكد للعقوبات الاقتصادية، حيث يبقى الأثر المحتمل لأي حرب متوقعة محتملاً، بينما يبدو أثر العقوبات الاقتصادية مؤكداً، وهذه هي النقطة الأساسية لفهم سيكولوجية نظام الملالي في المرحلة الراهنة.
السيناريو الأفضل للنظام الإيراني إذن هو السعي لإشعال صراع عسكري، يحقق هدف تصدير الأزمة الداخلية إلى الخارج ويسمح له بادعاء المقاومة والوقوع فريسة مؤامرة خارجية وغير ذلك من شعارات مستهلكة يصدرها النظام لاتباعه ومؤيديه في داخل إيران وخارجها.
صحيح أن المرشد الأعلى للنظام علي خامنئي والرئيس روحاني تحدثا أكثر من مرة عن عدم رغبتهما في الحرب، ولكن من يصدق هذا الحديث عليه أن ينظر لسلوك النظام وممارساته وانتهاكاته المتواصلة للقانون الدولي وسيادة الدول المجاورة ومجمل المبادئ والأسس والقواعد التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة، ثم يفكر قليلاً ويسأل نفسه بموضوعية: هل هذه سلوكيات نظام يسعى للحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي ويرفض الحروب والصراعات؟!
الموضوعية تقول أن النظام الإيراني يؤمن بمبدأ التقية السياسية بل هو أساس سياساته وتخطيطه الاستراتيجي انطلاقاً من فكر أيديولوجي يؤمن به هذا النظام الثيوقراطي، ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا يكرر رؤوس النظام تصريحاتهم الخاصة برفض الحرب، ويصدقهم بعض المخدوعين في منطقتنا وخارجها!
ثمة سبب استراتيجي آخر للإعلان المتكرر عن رفض الحرب واستبعادها من جانب ملالي إيران، وهو أنه لا نظام عاقل يقول علناً أنه يسعى للحرب ويريدها خصوصاً إذا كان الطرف الآخر هو القوى العظمى الوحيدة التي تهيمن على النظام العالمي بكل ما تمتلك من ترسانة عسكرية متطورة وقدرات هائلة على الردع وشل قدرة خصم عسكري بحجم إيران وترسانتها العسكري المتهالكة ومزاعمها الفارغة عن قدرات وهمية، فضلاً عن القدرات العسكرية المتطورة لحلفاء الولايات المتحدة الذين تربطهم اتفاقات تعاون دفاعي سيتم تفعليها حتماً في حال دخول أحد اطراف هذه الاتفاقات في صراع عسكري.
ناهيك عن أن نفي السعي للحرب يجلب للنظام الإيراني حداً ما من التعاطف الإقليمي والدولي على الصعيد الرسمي على الأقل، في ظل الخلافات المحتدمة بين العديد من الدول وإدارة الرئيس ترامب سواء لأسباب تجارية واقتصادية مثل الصين، او لأسباب استراتيجية وسياسية مثل روسيا. ولكل ماسبق على أي عاقل ألا يقع بسهولة في فخ عدم رغبة نظام الملالي في الحرب، إذ اكاد أجزم أنه بات أكثر توتراً عندما لاحظ أن الرئيس ترامب يعمل على تفادي الحرب بكل السبل، ومن فقد لجأ الملالي إلى ارتكاب حماقات تحرج البيت الأبيض ولا تترك له مجالاً للإفلات من سيناريو لا يرغب فيه او الابتعاد عن استحقاق الحرب! التي يريد الملالي فرضها عليه فرضاً، ومن ثم لم يجد الرئيس ترامب مفراً ولا مهرباً من التخلي تدريجياً عن نبرة التهدئة السياسية، التي التزمها في أيام سابقة، وخصوصاً أنه يحرص على الحفاظ على هيبة الولايات المتحدة وكرامتها بنفس القدر الذي يحرص فيه على عقد "الصفقات" وعدم التورط في صراع عسكري جديد.
قناعتي أن نظام الملالي تعمد التورط في تفجير ناقلتي النفط في خليج عمان ليحرج الرئيس ترامب ويضعه امام الأمر الواقع كي يعجل بالضغط على الزر ويأمر بضرب إيران، فإيران تنفي تورطها على طريقة "يكاد المريب يقول خذوني"، إذ لم تقدم أي دليل، ولو ضعيف، يثبت كذب الاتهامات الأمريكية بشأن تورطها في الهجوم على ناقلتي النقط في خليج عمان والعالم الذي شاهد مقاطع الفيديو التي واشنطن إنها تظهر القوات الإيرانية على متن قارب صغير تزيل لغمًا لم ينفجر من على جسم إحدى السفن، لم يرى أي دليل يثبت براءة الميلشيا الإيرانية من هذا الاتهام الخطير، وهكذا يتحقق للملالي رغبتهم في نشوب صراع عسكري يمثل بالنسبة لنظامهم طوق الإنقاذ الأخير للبقاء على قيد الحياة ولو لأشهر معدودات.