«أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا» مقولة تنطبق تماما على التحولات النوعية المهمة في الموقف الأوروبي حيال رد على الانسحاب الأمريكي من اتفاق فيينا، حيث قررت الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) اللجوء إلى آلية تسوية الخلافات التي ينص عليها الاتفاق لإلزام طهران على احترام كل تعهداتها المنصوص عليها، والتي تجاوزها النظام الإيراني وفق تدرج استهدف ابتزاز هذه الدول للخضوع لإملاءات الملالي.
الموقف الأوروبي أثار غضب النظام الإيراني الذي بدت تصريحاته حادة تجاه الأطراف الأوروبية، حيث قال المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي إن «الدول الأوروبية الثلاث بريطانيا وفرنسا وألمانيا هددت بإحالة الموضوع النووي الإيراني إلى مجلس الأمن»، مشيرا إلى أن هذه الدول الأوروبية «هي التي دعمت صدام في الحرب المفروضة على إيران وزودته بالسلاح الكيميائي»، لافتا إلى أنه حذر في وقت سابق من هذه الدول الأوروبية الثلاث باعتبارها «ذيولا لأمريكا، وهي في خدمة مصالح أمريكا ولا يمكن الوثوق بها». كما اتهم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الأطراف الأوروبية الثلاث بأنها خضعت لابتزاز الرئيس ترمب.
والحقيقة أن نظام الملالي لم يترك للدول الأوروبية أي خيار في التعامل معه سوى اللجوء لآليات وردت بالفعل في هذا الاتفاق، فالرئيس الإيراني حسن ورحاني قال عنه «لا يوجد حدود» تلزم بلاده في مسألة تخصيب اليورانيوم، بعد قرارها التخلي عن التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، ردا على مقتل قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني، ففي الخامس من يناير، أعلنت إيران تعليق جميع تعهداتها في إطار الاتفاق النووي على خلفية مقتل سليماني، في غارة أمريكية بالعراق.
وذكرت الحكومة الإيرانية، في بيان رسمي، أنها علقت جميع تعهداتها ضمن الاتفاق النووي، ولن تلتزم بها من الآن فصاعدا، مؤكدة أن «طهران لن تلتزم بالتعهدات المتعلقة بتخصيب اليورانيوم وتخزينه والبحث والتطوير»، كما أقر الرئيس روحاني في خطاب رسمي بأن البرنامج النووي في «وضع أفضل» مما كان عليه قبل الاتفاق النووي مع القوى العالمية، وبالتالي لم يكن أمام الأطراف الأوروبية سوى حسم النقاشات الدائرة بينها منذ أشهر حول إمكانية تفعيل «آلية فض النزاع»، باعتبارها أحد الإجراءات التي يمكن لأحد أطراف الاتفاق النووي اللجوء إليها لمعالجة مشكلة تخلف الطرف الآخر عن التزاماته، وفي حال تعذر ذلك، فإن الأمر قد يصل إلى إعادة الملف لمجلس الأمن الدولي، وإمكانية فرض عقوبات مجددا.
صحيح أن الدول الأوروبية تباطأت في اتخاذ موقف جماعي بشأن تفعيل آلية فض النزاع الواردة بالاتفاق، ولكن الغريب أن نظام الملالي يتعامل مع الأمر باعتباره خضوعا لإملاءات أمريكية، رغم أن التردد الأوروبي في اتخاذ هذه الخطوة كان مثار انتقادات طالت أوروبا بسبب الابتزاز الإيراني المتواصل، وسعي الملالي لاستغلال تباين المواقف عبر ضفتي الأطلسي، والعمل على توسيع هوة الخلافات الأوروبية الأمريكية حول التعاطي مع الملف النووي الإيراني، ولكن الملالي ـ كالعادة ـ يعملون وفق مصالحهم فقط من دون أدنى اعتبار لمراعاة مصالح الأطراف الأوروبية، التي باتت في موقف لا تحسد عليه في مواجهة التهور الإيراني في التنصل من أي التزامات وردت بالاتفاق، مما يعني انسحاب إيران واقعيا من الاتفاق من دون إعلان رسمي عن ذلك!
من المعروف أن أي اتفاق دولي هو عبارة إطار يتضمن مجموعة من الحقوق والالتزامات والمسؤوليات، وما حدث أن النظام الإيراني قد أعلن رسميا تنصله من التزاماته المنصوص عليها في الاتفاق النووي، أي إنه انسحب من دون إعلان رسمي، وأصبح الاتفاق خاويا وبلا معنى أو قيمة حقيقية ما لم يتم الإعلان رسميا عن تراجع إيراني عن قراراته الأخيرة والعودة للالتزام ببنود الاتفاق بشكل تام، خاصة أن إيران كانت قد أعلنت عن استعدادها للعودة للاتفاق في حالة رفع العقوبات وتأمين مصالحها، أي إنه باتت ـ من الناحية الفعلية ـ في حالة انسحاب أو في أفضل الأحوال تعليق أو تجميد لهذا الاتفاق من جانب واحد، وبالتالي يصبح الرد الأوروبي بتفعيل آلية فض النزاع أمرا حتميا وبدهيا، ويضع أمام التعليقات الإيرانية على الموقف الأوروبي عشرات من علامات الاستفهام!
من الغريب أن ينتقد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ما وصفه بـ «خضوع الأوروبيين الشديد» للولايات المتحدة، ويعتبر أن بريطانيا وفرنسا وألمانيا باعت الاتفاق النووي لإنقاذ نفسها من الرسوم الجمركية التي يهدد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب دوما بفرضها، رغم أنه يدرك تماما أن أوروبا استغرقت وقتا طويلا لحسم مسألة تفعيل آلية فض النزاع منذ بدايات انتهاك إيران لالتزاماتها الواردة في الاتفاق.
لا منطق أبدا في أن يذهب ظريف لوصف الموقف الأوروبي بأنه تضحية بالاتفاق للتخلص من رسوم ترمب الجمركية الجديدة! صحيح أن الرسوم الجمركية يمكن أن تكون قد لعبت دورا في حسم القرار الأوروبي ولكنه، للموضوعية، ليس الدور الأكثر تأثيرا، فقد جاء الحسم من خلال ممارسات الملالي أنفسهم الذين انسحبوا تماما من التزاماتهم وعادوا للتباكي على الموقف الأوروبي، واتهام الآخرين بالتضحية باتفاق هم خرجوا منه فعليا ويطالبون الأوروبيين بالبقاء فيه والحفاظ عليه!
المؤكد أن الأطراف الأوروبية التي تأخرت في تفعيل الآلية التي يمكن أن تنتهي إلى إعادة فرض العقوبات على النظام الإيراني، قد اقتربت كثيرا من الموقف الأمريكي بشأن إيران، وهذا أكثر ما يزعج الملالي.