يدرك المتخصصون والباحثون أن معظم مايصفه الحرس الثوري الايراني بالانجازات العسكرية، والادعاء بأن هناك تقدما تقنياً يحدث في هذا المجال ليس سوى نوع من الدعاية الزائفة، التي تستهدف رفع المعنويات والسعي لممارسة الحرب النفسية ضد من يعتبرهم نظام الملالي الايراني أعدائه وخصومه، وفي هذا الإطار لا يبدو مفاجئاً ماحدث مؤخراً من استهداف إحدى الفرقاطات بنيران صديقة خلال تدريب بحري ومقتل نحو 19 عنصراً واصابة 15 آخرين.
لم يستطع الملالي اخفاء الحادث لضخامته ووخسائره الكبيرة، ولكنهم مارسوا عادتهم في القاء اللوم على الولايات المتحدة بدعوى أنها تشن حرباً الكترونية تسبب تشويشاً لدى الجانب الايراني! وهي دعاوى بلهاء لأن أي جيش في العالم حالياً لم يعد يعمل في بيئة آمنة تماماً، وأن اختراق أنظمة الحاسوب لم يعد مهمة يضعها الخصوم والاعداء والمنافسون على قائمة أولوياتهم فقط، بل هناك أيضاً عناصر مدربة محترفة تعمل لمصالح جماعات وشركات ودول، وتجري محاولات مستمرة لاختراق الأنظمة والحصول على المعلومات والبيانات وتعطيل أنظمة التشغيل وغير ذلك، وإيران نفسها لديها جيش سيبراني محترف يحاول ممارسة القرصنة واختراق أنظمة معلومات الدول والجيوش على مدار الساعة، وبالتالي يبدو من السذاجة تفسير كارثة عسكرية كهذه في إطار التشويش على أنظمة التشغيل وغير ذلك.
المؤكد ـ معلوماتياً ـ أن البارجة الايرانية أصيبت بالخطأ بصاروخ أطلقته مدمرة إيرانية أيضاً تشارك في التدريبات البحرية، وأن الحادث وقع بسبب "خطأ تقني في الصاروخ الموجه الذي تم إطلاقه " كما قال بيان رسمي صادر عن الجيش الايراني.
فنياً، من الممكن أن يكون هناك تدخل خارجي قام بالتأثير على نظام التحكم والسيطرة في الصاروخ الذي تم إطلاقه وتغيير توجيهه كي يصيب الباجة الايرانية، ولكن هذا الأمر يعني سهولة اختراق نظام التحكم والسيطرة الذي عادة ما يكون صعب الاختراق ويمتلك قدرة على التشويش في مثل هذه الحالات، ولكن ضعف التكنولوجيا العسكرية الايرانية وتقادمها والشعور بوهم التقدم يوفر الفرصة لوقوع مثل هذه الكوارث العسكرية.
لاشك أن ماحدث يمثل فضيحة بكل المقاييس للصناعات العسكرية الايرانية، حيث من الواضح أنها تعاني أحد أمرين أولهما سهولة احتراق أنظمة التحكم والرقابة والسيطرة والتوجيه، بكل ما يعنيه ذلك من سلبيات بالنسبة لأجواء الحروب السيبرانية التي يعيشها العالم في الوقت الراهن، أو أنها تعاني اختلالات تقنية في أنظمة الرقابة والتوجيه بما يسمح بوقوع أخطاء في توجيه الأهداف، وهذا هو الاحتمال الأقل، وبالتالي فإننا أمام منظومة متهالكة تخصم من رصيد أي جيش ولا تضيف إليه على مستوى الردع والحماية الذاتية، ناهيك عن الهجوم وشن الحروب الاستباقية!
قناعتي أن كلا الجانبين، الولايات المتحدة ونظام الملالي، لا يرغبان حالياً في الكشف عن السبب الحقيقي لتدمير البارجة الايرانية، فالملالي لا يريدون الظهور بمظهر الضعيف الذي تلقى صفعة عسكرية كهذه، كما لا يريدون أن يمنحوا الرئيس ترامب انتصاراً سياسياً يساعده في تعزيز شعبيته المتراجعة بسبب سوء إدارة أزمة تفشي فيروس "كورونا" داخل الولايات المتحدة، كما أنهم يدركون أن الرئيس ترامب ربما يترقب أي خطأ إيراني لرفع مستوى الصراع والتوتر العسكري وتحقيق نصر سريع يدعم فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وإدارة الرئيس ترامب على الجانب الآخر، تنتهج مع الملالي سياسة توجيه الرسائل من دون إعلان، وتحقق أهدافها من دون ضجيج، وبالتالي لا ينتظر منها أي إعلان أو حتى تلميح لدور أمريكي في تفجير البارجة الايرانية، خصوصاً أنها كانت في مهمة تدريبية وأن الأمر لا يعدو كونه رسالة مباشرة للمرشد الأعلى بأن يد الولايات المتحدة قادرة على النيل من القوات الايرانية في أي مكان.
يدرك الملالي والرئيس ترامب وحدهما حقيقة ماحدث للبارجة الايرانية في مياه خليج عمان مؤخراً، وويتوقع أن تشهد فترة الأشهر القلائل المقبلة حتى انتخابات نوفمبر المزيد من الاختبارات على النسق ذاته، لأنه كلا الطرفين لا يريد خوض مواجهة عسكرية مباشرة ويخشى عواقبها ويكتفيان بلغة الرسائل المبطنة والعمل ضمن حدود التصعيد المحسوب للتوتر.