الحقيقة التي يعرفها الجميع أن لدى نظام الملالي الايراني قدرات كبيرة في نشر الفتن وإشعال الحرائق والاضطرابات الاقليمية والدولية، ومالبث أن انتهى هذا النظام من محاولة إشعال صراع في مياه الخليج العربي مع القطع البحرية الأمريكية، حتى انتقل إلى مياه البحر الكاريبي! حيث قرر الملالي إرسال خمس ناقلات نفط كبيرة محملة بالبنزين لدعم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الذي تعاني بلاده نقصاً حاداً في مصادر الوقود والطاقة بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة على فنزويلا.
الولايات المتحدة هددت بمنع ناقلات النفط الايراني من إفراغ حمولتها في الموانىء الفنزويلية حتى لو تطلب الأمر استخدام القوة العسكرية، كون التصرف الايراني يمثل تحدياً للنفوذ الأمريكي في واحدة من أخطر دوائر الهيمنة والنفوذ الأمريكي جيواستراتيجياً، بينما يراهن الملالي على أنهم يمتلكون ردعاً مضاداً في مواجهة التهديدات الأمريكية من خلال قدرة الايذاء التي يمتكلها الحرس الثوري الايراني ضد القطع البحرية الأمريكية في مياه الخليج العربي، أي أنهم يتصورن أن إدارة الرئيس ترامب لن تجرؤ على توجيه ضربة للناقلات الايرانية في مياه الكاريبي خشية أن يجلب ذلك رد فعل إيراني غاضب ضد القطع البحرية الأمريكية.
الحقيقة أن إيران جربت ردات الفعل الأمريكية الغاضية من خلال مقتل الجنرال قاسم سليماني الذي كان يتحرك عبر العراق وسوريا من دون أدنى اعتقاد أو شك بامكانية تعرضه لضربة لأمريكية، واعتماداً على الفكرة ذاتها القائمة على امتلاك قدرة الانتقام والرد المضاد! وفي الجانب الآخر فإن الولايات المتحدة أيضاً جربت ردة الفعل الايرانية الصوتية عقب مقتل الجنرال سليماني حيث انتهى الصريخ والتهديد والوعيد الايراني بإطلاق بضعة صواريخ على قاعدة عسكرية عراقية يتمركز بها بعض عناصر مشاة البحرية الأمريكية، وذلك بعد إبلاغ الجانب الأمريكي بتوقيت وحجم الرد الايراني الذي تسبب في ايذاء بعض الأفراد الأمريكيين الذين استهانوا بالرد الايراني ولم يتخذوا الاحتياجات اللازمة بشكل كاف اعتماداً على أنها هجمة محسوبة بدقة وتمت بأياد مرتعشة تخشى الانتقام الأمريكي المضاد!
الحرس الثوري الإيراني أصدر بيانًا قال فيه "إن أي تحرك من الولايات المتحدة مِثل القراصنة ضدّ شُحنات الوقود المتجهة إلى فنزويلا ستكون له تداعيات"، والأرجح أن الأمر لن يصل إلى حد إغراق ناقلات النفط الايرانية في الكاريبي، كما يصعب احتجاز ناقلات النفط الايرانية في مياه الكاريبي كما حدث بالنسبة لاحتجاز ناقلة النفط الايرانية التي كانت في طريقها إلى سوريا في مياه جبل طارق بواسطة البحرية البريطانية بالنظر إلى ما نال الجانب البريطاني من إحراج في هذه العملية، وبالتالي فليس أمام إدارة الرئيس ترامب سوى الأمر بإغراق ناقلات النفط الايرانية أو منعها تماماً من الوصول للموانىء الفنزويلية، والحسابات هنا مرهونة بموقف الرئيس ترامب الداخلي وحدود رغبته في التصادم مع إيران قبل اشهر قلائل من انتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل.
الحقيقة أنني لا اراهن كثيراً عن التصريحات النارية المتبادلة بين قادة الملالي ومسؤولي الإدارة الأمريكية، وقد شاهدنا خلال الأسابيع القلائل الماضية مايبرهن على أن قواعد اللعبة الحاكمة بين الدولتين لا تزال تٌؤتي أكلها وتفعل مفعولها، وأن الظاهر في العلاقات بين طهران وواشنطن يمكن ألا يعبر عن الباطن، وهناك تقارير إعلامية غربية كثيرة تتحدث عن محادثات سرية جرت بين الجانبين وأسفرت عن الاتفاق على تشكيل الحكومة العراقية الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي، كما يشير محللون إلى دور إيراني مهم في التوصل إلى مصالحة مهمة واتفاق لتقاسم السلطة في افغانستان بين الرئيس أشرف غني وخصمه وزير الخارجية السابق عبد الله عبد الله.
ومن الواضح أن التصريحات النارية المتبادلة بين الملالي وإدارة الرئيس ترامب تخفي ورائها قناعة الطرفين بضرورة الانصياع لنهج الصفقات في إدارة العلاقات في هذا التوقيت، خصوصاً وقد قاما بإجراء ما يلزم من اختبارات جس نبض، وتعرف كل طرف إلى حدود قوة الطرف الآخر ومدى رغبته في المضي حتى النهاية في التصعيد بما يعنيه ذلك من قياسات لحجم الخسائر وغير ذلك.
وبالتالي لا يبدو أن هناك تضارب في تحليل الواقع، فالملالي يريدون كسب مزيد من الدعاية الزائفة عبر إرسال ناقلات النفط إلى فنزويلا وهم يدركون أن الأمر ليس كله سياسة ومواقف وثوابت كما يقال، بل هناك مصالح تتمثل في شحنات الذهب الفنزويلي التي يحصل عليها الملالي مقابل دعم نظام الرئيس مادورو، بينما يبدو أن مثل هذه الممارسات تعجب الرئيس ترامب الذي يفضل القيام ببعض الحركات على قطعة الشطرنج لتخفيف الضغوط الداخلية الناجمة عن سوء إدارة أزمة كورونا في بداياتها وتوابع ذلك على الاقتصاد الأمريكي المتدهور إلى حد غير مسبوق. وبالتالي من السذاجة ـ سياسياً ـ أن نقف كثيراً عند المعارك المحسوبة التي تجري بين الملالي والولايات المتحدة في الوقت الراهن، فكل طرف يعرف تماماً حدود قوة الآخر، وفوارق القوة العسكرية والاستراتيجية ـ المعروفة جيداً ـ تمنع الملالي من القيام بأي مغامرة غير محسوبة كما يزعمون.