استغرب كثيراً مما يكتبه البعض مهللاً لملالي إيران ومهنئاً إياهم بانتصار مزعوم على عقوبات وحصار إدارة الرئيس ترامب من خلال تحديها في مياه الكاريبي وإرسال ناقلات نفط محملة بالبنزين لدعم موقف الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو! منبع الاستغراب أنني تابعت وصول ناقلات النفط الايرانية وقد حلقت فوقها مقاتلات أمريكية الصنع تحمل علم فنزويلا، وأن مسار رحلة الناقلات الطويل في المياه الدولية كان يمكن أن يكون مسرحاً لأي عمليات استخباراتية سرية أو عسكرية مباشرة لتعطيل الناقلات، وبالتالي
فالحديث عن عجز أمريكي أمام التحدي الايراني ليس واقعياً، ولا يجب أن تدفع التمنيات بعض الاقلام لترويج مزاعم لا أساس حقيقي لها.
يعرف كل من له علاقة بالاعلام والسياسة في عالمنا العربي أن هناك "لوبي" إعلامي داعم للملالي في العديد من وسائل الاعلام العربية التي تصدر في الداخل والخارج (في أوروبا وغيرها)، وهذا "اللوبي" ينقسم إلى فريقين أحدهما من أصحاب الشعارات الذين انساقوا وراء فكرة خاوية يروج لها النظام الايراني بشأن قيادته لتيار الممانعة ومحور المقاومة والرفض والتصدي للنفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وهذا الفريق يتحرك وفق منطق التحليل بالتمنى، ويحاول النفخ في كل سلوك إيراني والتهويل من نتائجه بما يتفق مع حجم ومستوى كراهيته للولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة. والفريق الآخر فريق مؤدلج موال لإيران طائفياً وتابع لها تمويلياً بشكل واضح، وهذا الفريق يتلقى أوامره وتعليماته من طهران، ويعمل وفق أجندتها ويروج لسياساتها على حساب انتمائه الهوياتي القومي العربي. وبين هذا وذلك من الفريقين هناك من يقرأ الأحداث المتسارعة في العلاقات الايرانية الأمريكية وفق رؤية سطحية لا تأخذ بالاعتبار مجمل تعقيدات بيئة هذه العلاقات وأبعادها الاستراتيجية المختلفة وما يعتريها من شد وجذب وصراع يدور أغلبه في الظاهر وتفاهمات تدور جميعها من وراء الكواليس وعبر قنوات بالغة السرية.
وفي ضوء ماسبق، يمكن فهم منطلقات كثير من جوانب الدعاية الزائفة لما يثار بشأن التحدي الايراني للولايات المتحدة في عمقها الاستراتيجي الأقرب وحديقتها الخلفية وغير ذلك، والحقيقة أنه لا ناقلات النفط الايراني قد كسرت الحظر الذي يفرضه الرئيس ترامب على فنزويلا، ولا الرئيس ترامب يشعر بالهزيمة والعجز في مواجهة التحدي الايراني لسبب بسيط هو أن شحنات النفط الايرانية لن تحل المشاكل التي تحاصر الرئيس الفنزويلي، الذي اغرق بلاده في أزمة سياسية واقتصادية عميقة منذ سنوات، حيث بلغ معدل التضخم نحو 800 ألف في المئة العام الماضي، بينما فرّ حوالي 4.8 مليون شخص من البلاد.
وفوق ماسبق، فإنني اعتقد أن من يرى في ترك حرية التحرك لهذه الناقلات كسراً للهيمنة الأمريكية البحرية الدولية فهو لم يزل يتعامل وفق منطق الربع الأخير من القرن العشرين وليس وفق قواعد اللعبة الحالية، وعليه أن يتذكر جيداً أن الولايات المتحدة سبق أن سمحت بتصرفات كثيرة من هذا النوع وآخرها ناقلة النفط التي كانت متوجهة إلى سوريا واحتجزتها السلطات البريطانية في جبل طارق، ولم تعترضها القطع البحرية الأمريكية خلال رحلتها التي يمكن خلالها احتجازها بسهولة من جانب الولايات المتحدة التي تفادت تعريض نفسها لحرج استراتيجي في حال الرد الايراني باحتجاز أي قطعة بحرية أمريكية في مياه الخليج العربي، ما يضع الإدارة الأمريكية في مواجهة خيار حتمي وحيد وهو اتخاذ قرار بعملية عسكرية لتحرير القطعة البحرية المحتجزة لدى الجانب الايراني، لأن أي تفاوض أو صفقة في هذا الشأن كانت تعني ببساطة انهيار استراتيجية العقوبات الاقتصادية الصارمة التي يطبقها الرئيس ترامب لاخضاع الملالي وإجبارهم على الجلوس من أجل التفاوض.
قناعتي أن مناورات ومراوغات الملالي تروق للرئيس ترامب الشغوف بعقد الصفقات، حيث يدرك أن مثل هذه المراوغات هي المدخل لتحسين المواقف التفاوضية تمهيداً للتفاوض في مراحل لاحقة، وأن هناك مباراة استراتيجية تجري الآن يجري فيها كل طرف حسابات دقيقة لما يحصل عليه وما يخسره من نقاط، وبالتالي فهو يشعر بأن كل مايحدث يصب في النهاية في خانة تحقيق الأهداف الاستراتيجية الأمريكية من محاصرة النظام الايراني، الذي فشل في فك طوق الحصار رغم سلسلة إجراءات خفض الالتزام ببنود الاتفاق النووي، والتي وصلت إلى مايعرف بالمرحلة الخامسة والأخيرة، حيث قرر الملالي مواصلة تخصيب اليورانيوم من دون قيود، وواصلت الاعلان عن إطلاق صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية، كما دفع الملالي ثمناً بالغاً لممارساته بمقتل الجنرال قاسم سليماني القائد الأبرز في تاريخ الحرس الثوري الايراني، ومهندس الأجندة التوسعية الطائفية الايرانية في الاقليم، في قرار يصعب فهم دوافعه بمعزل عن الانتقام الأمريكي لاسقاط إيران طائرة الاستطلاع "RQ4" بصاروخ أطلقه الحرس الثوري.