رغم أن جميع القضايا والأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ذات تأثير إستراتيجي مباشر على الأمن والاستقرار في دول الاتحاد الأوروبي، فإن الاستجابات وردود الأفعال والمواقف الأوروبية تجاه هذه الأزمات تراوح بين الضعف والتردد والاكتفاء بالبيانات الرسمية دون تبني إجراءات حاسمة تتماهى مع مصالح الأطراف الأوروبية المختلفة.
أحد أسباب هذا الواقع الأوروبي أن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تواجه صعوبات في بناء موقف مشترك حيال بعض الأزمات والقضايا، لأن هناك تباينات واضحة في المصالح والمواقف بين بعض الدول الأعضاء في الاتحاد لاسيما فيما يتعلَّق بالأزمة الليبية.
الأزمة الأهم بالنسبة للجانب الأوروبي، من واقع الوزن النسبي للجهود المبذولة، هي الأزمة الإيرانية، التي منحها الاتحاد الأوروبي ولا يزال، اهتماماً كبيراً منذ توقيع الاتفاق النووي (5+1) عام 2015، حيث قدمت أوروبا دائماً طوق الإنقاذ للنظام الإيراني للحيلولة دون انهياره جراء الضغوط والحصار الاقتصادي الشديد الذي يمارسه الرئيس ترامب ضده، حيث قام الثلاثي الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) بتفعيل آلية «انستكس» للتعاون التجاري بين طهران والثلاثي الأوروبي التفافاً على قرارات الحظر والعقوبات الأمريكية، حيث تم في مارس الماضي إرسال دفعة مستلزمات طبية إلى إيران عبر هذه الآلية، التي تأسست في يناير 2019 وتهدف لتأمين التجارة القائمة بين الطرفين وحماية الشركات الأوروبية من العقوبات الأمريكية المفروضة على الملالي. وهي الآلية التي انضمت إليها في ديسمبر 2019 كل من بلجيكا والدنمارك وفنلندا وهولندا والنرويج والسويد. ورغم أن تطبيق هذه الآلية لا يزال في مرحلة «جس نبض» ردة الفعل الأمريكية واختبار قوة القبضة الأمريكية فإنها تمثّل إشارة مهمة على أن إيران موضوع خلافي بين شركاء الأطلسي (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة).
إيران من جانبها تمارس الضغوط على أوروبا من أجل ما تصفه بالتحرر من النفوذ الأمريكي، ولكن الجانب الأوروبي يسعى فيما يبدو لكسب الوقت بانتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل لمعرفة اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية التي شهدها تحولات كبيرة في عهد الرئيس ترامب، فضلاً عن أن الاتحاد الأوروبي ذاته يمر بمرحلة حساسة جراء خروج بريطانيا وآثار جائحة «كورونا» التي فتحت الباب أمام مخاوف وجودية عميقة تطال مصير الاتحاد ذاته. وهو ما يفسر جزئياً تباطؤ تفعيل آلية «انستكس» التي يفترض أنها تضطلع بدور تسهيل المعاملات التجارية بين الجهات الأوروبية والإيرانية من خلال سداد قيمة السلع الأوروبية كمقابل لثمن صادرات النفط الإيرانية لأوروبا، حيث كان الاتفاق ينص على تبادلات أولية بقيمة مليار دولار من النفط مقابل مستحضرات طبية ومنتجات غذائية وزراعية لإيران، كوسيلة لاحتواء ردة الفعل الإيرانية جراء انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي.
ويلاحظ أن اللهجة الأوروبية تجاه إيران قد بدأت في التغير إثر إعلان الملالي تخليهم تدريجياً عن بنود التزاماتهم الدولية، ولكن أوروبا كانت تميل دائماً لتقديم النصائح والدعوات للملالي بضرورة تفادي سيناريو انهيار الاتفاق النووي، وذلك رغم أن الاتفاق قد مات إكلينيكياً من الناحية النظرية منذ انسحاب الولايات المتحدة منه في مايو عام 2018م وظلت الدبلوماسية الأوروبية تراهن كثيراً على القيام بوساطات لنزع فتيل الأزمة والتوتر انطلاقاً من قناعة بأن هذا الاتفاق إذا تم احترام بنوده، هو الآلية الوحيدة القادرة على منع إيران من الحصول على السلاح النووي.
ورغم أن الملالي لا يرغبون بقطع العلاقات مع الثلاثي الأوروبي ويكتفون بتوجيه الاتهامات لهم بالخضوع للنفوذ الأمريكي، فإن المؤشرات تقول إن العلاقات تتجه إلى صدام فيما يتعلَّق بإدارة الملف النووي تحديداً، حيث صوتت لجنة الأمن القومي والسياسية الخارجية، في البرلمان الإيراني، على مشروع قانون، لتقديمه إلى البرلمان، يلزم الحكومة بتعليق العمل الطوعي بالبروتوكول الإضافي، وذلك رداً على قرار مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الصادر مؤخراً بدعم أوروبي، والذي أدان طهران، حيث يلاحظ أن مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قد تبنى قراراً قدمته بريطانيا وفرنسا وألمانيا، يدين طهران ويطالبها بمزيد من التعاون، وفتح موقعين قالت إنها تشتبه بقيام طهران أنشطة نووية فيهما، وهو ما نفته طهران. ورغم أن الملالي قد اعتادوا التهديد بالانسحاب من البروتوكول الإضافي، الذي يسمح لمفتشي وكالة الطاقة الذرية بالقيام بعمليات تفتيش واسعة النطاق ومفاجئة لمواقع نووية إيرانية، منذ توقيع الاتفاق النووي، مما زاد بدرجة كبيرة من قدرة الوكالة على التحقق من أنشطة طهران النووية، فإن تنفيذ التهديد والانسحاب فعلياً من البروتوكول قد يضع الأزمة الإيرانية على أبواب مرحلة جديدة لن تقوم فيها أوروبا بدور داعم للإبقاء على الاتفاق النووي في ظل تشدد الملالي في مواقفهم ورغبتهم في ابتزاز الثلاثي الأوروبي.
العلاقات الإيرانية الأوروبية تمر باختبار قوة يفترض فيه أن تمضي فيه الدبلوماسية الأوروبية بشكل أكثر حزماً وصرامة للتعامل مع التهديدات الإيرانية المتزايدة، والتي أصبحت تمثِّل معضلة صعبة للأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.