لا خلاف على أن أحد أسباب تمادي نظام الملالي الايراني في انتهاك القوانين الدولية وتحدي إرادة المجتمع الدولي سواء فيما يتعلق بالبرنامج النووي والصاروخي، أو بالتوسع الطائفي اقليمياً والتدخل في دول أخرى والتورط في إشعال الحروب بالوكالة في دول عدة بالاقليم، هو الانقسام والخلاف بين القوى الكبرى حول استراتيجية التعامل الأنسب مع طموحات الملالي.
وإذا كان من الطبيعي أن تتباين المصالح الاستراتيجية للدول والقوى الكبرى، وهو ماينعكس على تعاملات وعلاقات هذه القوى مع الدول الأخرى، وما يرتبط بذلك من استخدام أو توظيف بعض هذه الدول كأدوات في تحقيق الاستراتيجيات والمصالح بما فيها مناوئة المنافسين والخصوم الاستراتيجيين، فإن من الطبيعي كذلك أن تكون هناك قواعد متفق عليها للعبة تضمن تحقيق الحد الأدنى المطلوب للأمن والاستقرار الاقليمي والدولي، باعتبار أن تعمق الخلافات وتوسعها وتشعبها من دون رادع أو قيود وحدود وسقف يلجمها، ينعكس بالتبعية على خارطة التوترات والصراعات والأزمات التي يعانيها العالم.
وماحدث في مجلس الأمن الدولي مؤخراً خلال مناقشة موضوع حظر الأسلحة على إيران، يمثل نموذجاً لما سبق، فالولايات المتحدة سعت في مجلس الأمن الدولي إلى تمديد حظر الأسلحة المفروض على إيران والذي ينتهي في منتصف اكتوبر المقبل، محذّرة من تهديد للاستقرار في الشرق الأوسط في حال عدم المضي بالتمديد، بينما عارضت روسيا والصين هذا التمديد، الذي فرض لخمس سنوات بموجب الاتفاق النووي المبرم بين نظام الملالي الايراني ومجموعة "5+1" في عام 2015.
الموضوعية في مناقشة هذا الأمر تقتضي الاعتراف بأن الملالي يمثلون عنصر تهديد ونشر للفوضى والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، ولعل التقرير الأخير، الذي أعده الأمين العام للأمم المتحدة حول مدى التزام إيران بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، وجاء فيه أن صواريخ "كروز"، التي هُوجمت بها منشآت نفطية (أرامكو) ومطار دولي في السعودية العام الماضي هير صواريخ ايرانية المصدر، وأن "هذه القطع ربما نُقلت بطريقة لا تتسق" مع قرار مجلس الأمن لعام 2015 المنصوص فيه على الاتفاق بين طهران والقوى العالمية لمنعها من تطوير أسلحة نووية، يعكس مستوى التهديد والخطر والصمت على الخرق الايراني الممنهج للقانون الدولي.
وإذا كان الأمين العام للأمم المتحدة قد توصل إلى استنتاج قاطع يربط نظام الملالي بشحنات الأسلحة التي تمت مصادرتها سواحل اليمن في نوفمبر 2015، وفبراير 2020، ما يؤكد تورطها في تسليح ميلشيات الحوثي، وانتهاكها لحظر الأسلحة المنصوص عليها في القرار الدولي المشار إليه، فإن تحدي نظام الملالي للقانون الدولي من خلال رعاية وتمويل وتسليح الميلشيات في أرجاء الشرق الأوسط لا يحتاج إلى دلائل، فهناك جماعات وتنظيمات ارهابية عدة تعمل بالوكالة لمصلحة النظام الايراني كما في سوريا ولبنان والعراق واليمن.
هذا الواقع الذي تعانيه منطقة الشرق الأوسط لا تتم مراعاته في حسابات المصالح بين القوى الكبرى، ما يسهم في تغول الملالي وتحولهم تدريجياً إلى قوة مارقة خارج السيطرة الدولية، حيث استغل الملالي رفض روسيا والصين تمديد حظر الأسلحة في مجلس الأمن الدولي، بينما بدا الجانب الأوروبي داعماً لمقترح تمديد حظر الأسلحة الذي طالبت به الولايات المتحدة لكنه اعرب عن معارضته فرض عقوبات جديدة على إيران، بدعوى الابقاء على الجهود الأوروبية للحفاظ على الاتفاق النووي كما قال السفير البريطاني في مجلس الأمن جوناثان آلن، رغم أن الكل يدرك أن هذا الاتفاق مات اكلينيكياً منذ انسحاب الولايات المتحدة منه قبل عامين، وأن جهود الابقاء عليه ليست سوى جرعات اوكسجين تقدم ـ من دون قصد ـ لنظام الملالي للابقاء عليه وتحسين صورتهم في الداخل وإظهارهم بمظهر القادر على تحدي النفوذ الأمريكي دولياً!
الجانب الأوروبي لا يزال يراهن على الدبلوماسية في التعامل مع طموحات الملالي، وروسيا والصين تنظران للملالي باعتبارهم شوكة تنغص على صانع القرار الأمريكي هدوئه، بينما لا تمتلك الولايات المتحدة في حقيقة الأمر استراتيجية دقيقة وواضحة للتعامل مع تهديدات الملالي، لاسيما أن الرهان على سياسة الضغوط الاقتصادية القصوى لم يعد كافياً في ظل قدرة الملالي على احتواء آثار هذه الضغوط مرحلياً، والسعي لكسب الوقت بانتظار خسارة الرئيس ترامب للانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل.
في ظل هذا المشهد الخلافي بامتياز، تنتعش آمال وطموحات الملالي في البقاء في السلطة وتنفيذ بقية مشروعهم التوسعي الطائفي، رغم ماينطوي عليه ذلك من إضرار بالأمن والاستقرار الاقليمي والدولي، ورغم أن مثل هذه الخلافات تشجع أنظمة وقوى اقليمية أخرى على استنساخ السلوك الايراني المارق مثلما يفعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حالياً، حيث بات يمثل حلقة التمرد الأخرى في الشرق الأوسط مهدداً نفوذ القوى الكبرى أحياناً ومتماهياً مع بعضها أحيان أخرى، ولكنه في مجمل الأحوال يلعب على وتر التبانيات والانقسامات الدولي في ملفي سوريا وليبيا مثلما يفعل الملالي الذين يتخذ منه قدوة ملهمة في تحدي القانون الدولي!
الأمن والسلم الدوليين يبدأ وينتهي عند حدود التوافق الدولي التام على الحدود والمعايير التي يجب على الجميع الالتزام بها مهما تباينت المصالح والاستراتيجيات والأهداف، ولكن اللحظة الراهنة تتسم بقدر عال من السيولة والفوضى في العلاقات الدولية، حيث يشهد النظام العالمي تحولات في طور التشكل من مرحلة مابعد الحرب الباردة وهيمنة القطب الأمريكي، إلى مرحلة انتقالية لم تتبلور معالمها بعد، وهذا مايفسر تلاعب الملالي والسلطان أردوغان بالأمن الاقليمي في ظل غياب الإرادة الدولية وأفول المنظومة الاقليمية المسؤولة عن الأمن القومي العربي.