عندما تبني دولة ما منشأة نووية ولا توفر لها سبل الحماية، التقليدية والسيبرانية، فإن الأمر يصبح بمثابة المزحة السخيفة، وهذا ما يحدث مع نظام الملالي الإيراني، وما كشفته سلسلة الحوادث التي تعرضت لها المنشآت النووية الإيرانية في الآونة الأخيرة؛ فقد اعترف الملالي بأن حريقاً شب في منشأة «نتانز» النووية وتسبب في «خسائر كبيرة» بحسب وصف المنظمة الوطنية للطاقة النووية الإيرانية، التي اكتفت بأن تعهدت باستبدال المعدات المحترقة بأخرى «أحدث وأكثر تطوراً»!
الثابت بحسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين أن الحريق قد نجم عن عملية قرصنة إلكترونية تعرضت لها منشأة نووية هي الأخطر ضمن المنشآت النووية الإيرانية، كونها محور عمل البرنامج النووي الإيراني باعتباره المنشأة الأكبر والأكثر سرية في هذا البرنامج، وفيها تقوم أجهزة الطرد المركزي بإنتاج اليورانيوم المخصب، الذي يمكن استخدامه كوقود للمفاعلات فضلاً عن كونه مكونًا أساسيًا في عملية تصنيع أسلحة نووية.
لم يكن حريق منشأة «نتانز» النووية هو الوحيد في الأسابيع الأخيرة في إيران، بل هناك تفجيرات وحرائق أخرى تعرضت لها مناطق ومنشآت عدة، بشكل يعكس حجم الفشل والانهيار الذي تعانيه منظومات الأمن الإيرانية التي سبق أن تعرضت لاختراقات عدة من داخلها. وسواء كان سبب الحريق هجوماً إلكترونياً كما قال مسؤولون إيرانيون في تصريحات لوكالة «رويترز» أم كان السبب عملية استخباراتية تقليدية، فإن الحالتين تجسدان حالة الوهن والضعف والتآكل التي تشهدها أنظمة الأمن والحماية الخاصة بهذه المنشآت الحساسة.
شخصياً، لا أثق في تصريحات الملالي سواء تحدثوا عن قرصنة إلكترونية أو مبررات أخرى، ففي حالة الانفجار الذي وقع بالقرب من مجمع «بارشين» العسكري، ذكرت السلطات هناك أن التفجير ناجم عن «تسرب في خزانات للوقود» في الموقع، ولكن محللين قالوا إن صورًا بالقمر الصناعي توضح أن الانفجار وقع في منشأة قريبة لإنتاج الصواريخ.
الواقع يقول إن هناك حالة انكشاف أمني كبيرة للمنشآت النووية والاستراتيجية مثل مصافي تكرير النفط ومحطات الطاقة، في إيران أمام الهجمات السيبرانية، حيث تعرضت هذه المنشآت لهجمات كثيرة ألحقت بها أضرارًا كبيرة خلال الأشهر القلائل الماضية. وقد جاء اعتراف الملالي بالهجوم على منشأة «نتانز» ليكون برهاناً على صعوبة إنكار حدوث الهجوم أو التعتيم عليه في ظل وجود صور للأقمار الصناعية ترصد ما يحدث في هذه المنشآت بدقة شديدة.
عندما سئل وزير الخارجية الإسرائيلي في اليوم السابق عما إذا كانت إسرائيل تقف وراء حادث «نتانز» أجاب بصورة غير مباشرة قائلا «من الأفضل أن تبقى تصرفاتنا في إيران دون تصريح»، وهي إجابة تعفي الجانب الإسرائيلي من تحمل المسؤولية المباشرة، ولكنها لا تنفي قيامه بالهجوم، لا سيما أن إسرائيل قد شنت قبل أكثر من عقد هجوماً كبيراً تسبب في أضرار كبيرة للبرنامج النووي الإيراني، من خلال فيروس «ستاكسنت»، الذي أصاب نحو ثلاثين ألف جهاز حساب آلي في إيران عام 2010 وتسبب وقتذاك في تدمير جانب من قدرات إيران النووية وتعطيلها.
ملالي إيران من جانبهم لم يصرحوا بشكل مباشر بمسؤولية إسرائيل عن الهجوم الإلكتروني على منشأة «نتانز»، حتى لا يصبحوا في موضع المطالبة بالرد على الهجوم، وآثروا وضع الأمر في دائرة الكتمان ربما لأن الرد لن يكون جاهزاً ولا قابلاً للتحقق بشكل سريع كما يتصور البعض، حيث يراهن الملالي على عامل الوقت بانتظار خسارة الرئيس ترامب لسباق انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل، كما يبدو أن الملالي قد تعلموا درس التسرع في التهديد والافراط في الوعيد بالرد على مقتل الجنرال قاسم سليماني على يد القوات الأمريكية، حيث اكتشفوا بعد زوال نوبة الانفعالات صعوبة تنفيذ أي تهديد أو وعيد ومن اكتفوا بتوجيه ضربة صاروخية محسوبة ضد قاعدة «عين الأسد» بعد أن تم إبلاغ الجانب الأمريكي بتوقيتها مسبقًا!
يدرك الملالي أن أي خطأ في الحسابات والتقديرات الاستراتيجية في الوقت الراهن، وخصوصاً ما يتعلق بتهديد أمن إسرائيل، قد يوفر للرئيس ترامب والجانب الإسرائيلي فرصة مواتية لتوجيه ضربة عسكرية قاصمة للنظام الإيراني، لذا فإن الرهان يبقى على السعي لتفويت الفرصة وكسب الوقت حتى وإن تعرضت إيران لهجمات إلكترونية متكررة في الأشهر القلائل المقبلة بغض النظر عن مستويات الدمار الناجم عن هذه الهجمات.
الشواهد تؤكد أن إيران تبدو مثل نمر من ورق في مواجهة الهجمات السيبرانية، على خلاف ادعاءاتها الكاذبة حول قدراتها الواهية في مجال الأمن والحرب السيبرانية، التي تصنف إيران نفسها من ضمن الدول المتقدمة التي تمتلك قدرات سيبرانية عالية، فضلاً عن امتلاك قيادة دفاع إلكتروني ومجلس أعلى للفضاء السيبراني!