يمارس ملالي إيران في المرحلة الراهنة استراتيجية "عض الأصبع" مع الإدارة الأمريكية الجديدة، التي تحاول كسب الوقت من أجل تعظيم الضغوط على الملالي واخضاعهم لشروطها، فضلًا عن محاولة التريث بانتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الايرانية منتصف العام الجاري؛ بينما يسعى الملالي لنقل الضغوط إلى المربع الأمريكي بالتلويح باقتراب مهلة 21 فبراير الجاري التي وضعها البرلمان الايراني في أواخر نوفمبر الماضي، والتي تلزم حكومة روحاني بتنفيذ 9 خطوات تصعيدية منها وقف العمل بالبروتوكول الاضافي، وطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما لم يتم رفع كافة العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران بحلول هذا التاريخ!
في إطار هذه اللعبة بدأ الملالي مبكرًا مسيرة تعزيز الموقف التفاوضي بانتهاك بنود الاتفاق النووي قبل انتهاء ولاية ترامب أشهر قلائل، والانطلاق من "نقطة الانتهاك"، مع الحرص على تسريب معلومات حول زيادة معدلات تخصيب اليورانيوم، سواء من خلال تصريحات قادة النظام، أن من خلال اثبات هذه الانتهاكات ـ بجرأة لافتة ـ امام أعين مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أي تغيير التكتيك بدلًا من المرواغة والتهرب كما كان سابقًا، بحيث يتم في الآونة الأخيرة فتح فتح بعض المنشآت النووية للمفتشين الدوليين لإدراج ما يريد الملالي اثباته في تقرير الوكالة، وهذا ماحدث حرفيًا في آخر بيان للوكالة، والذي أكدت فيه أن إيران تمضي قدمًا في خطتها لانتاج اليورانيوم المخصب، حيث أبلغ المدير العام رافائيل ماريانو جروسي الدول الأعضاء في الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتطورات الأخيرة فيما يتعلق بأنشطة البحث والتطوير لدى إيران لإنتاج معدن اليورانيوم في إطار هدفها المعلن لإنتاج الوقود من أجل مفاعل طهران البحثي!! وأكد لهم أن الوكالة تحققت في الثامن فبراير الجاري من وجود 6ر3 جرام من معدن اليورانيوم في مصنع لانتاج ألواح الوقود في أصفهان بإيران؛ وهذا الأمر يأتي على خلاف السلوك المراوغ الذي كانت يتبعه الملالي مع مفتشي الوكالة فترة ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، خشية استغلال هذه المعلومات في توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الايرانية، ولكن الوضع تبدّل، إذ يستشعر الملالي أنهم باتوا في مأمن من ضربة أمريكية على الأقل، بل ويتوقعون ضغوط أمريكية على اسرائيل للحيلولة دون قيامها بتنفيذ تهديداتها بعمل انفرادي عسكري ضد إيران.
وفي ضوء ماسبق، يدرك الملالي أنهم ذاهبون لا محالة إلى مائدة التفاوض مع مجموعة "5+1"، وأن المسألة هي مسألة وقت، ولذا فكل طرف يسعى في هذه المرحلة الحاسمة إلى تعزيز موقفه التفاوضي وبلوغ أقصى درجات التشدد ثم الانطلاق منها والنزول من أعلى قمة الشجرة تدريجيا خلال فترة التفاوض، بحيث يرتبط، أو بالأحرى يرتهن، هذا الهبوط التدريجي بما سيحصلون عليه من تنازلات أو بالأحرى مكاسب استراتيجية.
الواقع يقول أن الملالي لديهم الآن موقف تفاوضي قائم على بلوغ مستوى تخصيب يورانيوم أعلى من النسب الواردة في الاتفاق النووي (5ر3%) حيث تؤكد التقارير أنهم تجاوزوا سقف العشرين بالمائة، ورغم أن هذه النسبة لا تزال بعيدة ـ نظريًا ـ عما يحتاجه صنع سلاح نووي، فإن تجارب الدول النووي السابقة تقول أن امتلاك المعرفة يعني أن القرار لم يعد تقنيًا بل بات مرهون بإرادة سياسية، ومن ثم يصبح الوقت كفيلًا ببلوغ السقف المطلوب لصناعة "القنبلة". ولدى الملالي أيضًا أوراق ضغط أخرى مثل تموضعهم التوسعي في سوريا وتمركزهم بدرجة وأشكال غير محددة بدقة في العراق، وارتباطهم الطائفي والعقائدي والتنظيمي مع ميلشيات عدة في الشرق الأوسط، وهذا يعني أن الانسحاب من كل هذه الملفات سيكون له مقابل استراتيجي بموجب استراتيجية "الخطوة مقابل خطوة"، فالتفاوض على طريقة الرئيس جو بايدن الذي يؤمن تمامًا بالحلول الدبلوماسية ويراهن عليها بشكل مطلق، يعني أن يحصل الملالي على مكاسب مقابل أي تراجع عن مواقفهم غير المشروعة من الأساس!
في إطار لعبة الشد والجذب هذه، واستراتيجية "عض الأصبع" يجيد الملالي توزيع الأدوار بين قادة النظام، ولكن هذه المرة في إطار التشدد فقط، وليس المراوحة بين المرونة والتشدد كمان في السابق، فالملاحظ أن التصريحات جميعها تبدو وكأنها مبارزة كلامية في التشدد والتطرف والتهديد الوعيد، ولاسيما فيما يتعلق بتجاوز "فتوى" المرشد ومواقفه بشأن "تحريم" امتلاك سلاح نووي، وهذه هي أحدث موجات لعبة توزيع الأدوار، والمفاجأة التي وردت على لسان وزير المخابرات الايراني محمود علوي بشأن امكانية تجاوز هذه الفتوى قد أربكت بالفعل فريق الرئيس بايدن، ودفعتهم إلى التعبير عن "القلق"، وهذا هو المطلوب إيرانيًا حرفيًا، أي إرباك هذا الفريق والسيطرة على نفوذ التيار الداعي إلى التشدد مع النظام الايراني، ودفعه إلى الصمت وترجيح كفة التيار الداعي إلى المبادرة بالتفاوض وتقديم تنازلات للملالي!
اتوقع أن يكون المسؤولين عن الملف النووي الايراني وفي مقدمتهم بالطبع، روبرت مالي المبعوث الأمريكي للشؤون الإيرانية، الذي عينّه الرئيس بايدن، إلمام كاف بذهنية المفاوض الايراني، وكذلك الاعتبارات المعقّدة التي تحكم سلوكيات هذا النظام ومحركاته وقواعد اللعبة التي يتحرك في إطارها، واتمنى ـ شخصيًا ـ أن يتجاوز المبعوث الجديد أي تأثر محتمل بكونه أحد "مهندسي" الاتفاق النووي الذي وُقع عام 2015، نظرًا لأن مالي كان يبدي دعمًا قويًا لالتزام الأطراف جميعها بالاتفاق من دون الاشارة إلى الثغرات الكارثية التي ينطوي عليها، فضلًا عن عدم رضاه للشروط التي وضعتها إدارة ترامب للعودة الى الاتفاق النووي، وكان يعتبرها "غير واقعية" وهذه بحد ذاتها مسألة تثير قلق أوساط أمريكية واسعة. وللموضوعية، فإن إدارة الرئيس بايدن تبدي ـ حتى الآن ـ مواقف أكثر حزمًا عما هو متوقع مع الملالي، وأعلنت ـ قبل تعيين مالي ـ شروطًا مقاربة لشروط ترامب للعودة للاتفاق، وباتت تأخذ بالاعتبار مسألة النفوذ الايراني ودور شركاء الولايات المتحدة والجوار الايراني في أي مفاوضات مقبلة، ولكن يبقى التساؤل: هل ستستمر هذه الموقف الحازمة أم يمكن التخلي عنها كليًا أو جزئيًا في ظل الحوارات الدائرة مع الشركاء الأوروبيين، الذين يؤمنون بأن إنعاش الاتفاق النووي يمثل أولوية مطلقة، وكانت هذه الجزئية نقطة الخلاف الفارقة بينهم وبين الرئيس السابق ترامب.
ما يبعث على التفاؤل الحذر أن الجانب الأوروبي ـ ولاسيما فرنسا ـ بات يتحدث بجدية واضحة عن دور دول الجوار الايراني في أي مفاوضات مقبلة، وهذا أمر جيد، ولو أضفنا إلى ذلك تعيين مستشار الأمن القومي الاسرائيلي مائير بن شابات مبعوثا لمتابعة الاتصالات مع القوى الكبرى حول الاتفاق النووي الإيراني، نصبح أمام احتمالية كبيرة لإحداث التوازن والحيلولة دون الانسياق لتهديدات نظام الملالي، أو إبداء مرونة حيالها.
والمأمول ألا ينجح الملالي في استدراج الأطراف جميعها كما حدث طيلة عشر سنوات سبقت توقيع الاتفاق النووي عام 2015، وأن تنصت الولايات المتحدة وبقية الأطراف الدولية جيدًا لوجهات نظر دول الجوار الايراني، والاستفادة من خبرتهم التراكمية في التعاطي مع جارهم المشاغب، وأيضًا الموازنة بين "العصا" و"الجزرة" في إدارة ازمة يجيد الطرف الآخر فيها "عض الأصبع" بقسوة بالغة طالما قرأ التردد والهلع في عيون بقية الأطراف، ومن ثم دفع الأمور إلى "حافة الهاوية"، والتمترس عندها واستنساخ النموذج التفاوضي الكوري الشمالي في هذا الإطار.