صحيح أن المواجهات الدامية التي دارت مؤخراً بين الفلسطينيين وإسرائيل انطلقت من نقطة دفاع الفلسطينيين المشروع عن أرضهم وحقوقهم، ولكنّ ثمة خيطاً واضحاً كان يربط بين ما يحدث في غزة وما يدور على مائدة التفاوض في فيينا بين ممثلي نظام الملالي ونظرائهم من القوى الخمس الكبرى التي وقّعت الاتفاق النووي عام 2015، بالإضافة إلى المفاوضين الأمريكيين الذين تواجدوا في قاعات وأماكن أخرى ولم يشاركوا - حتى الآن - في المفاوضات بشكل مباشر.
صحيح أن نظام الملالي، وتحديداً ميليشيات الحرس الثوري الإيراني، لم تشارك بشكل مباشر في المواجهات التي دارت بين الفلسطينيين وإسرائيل، ولكنها حرصت تماماً على الظهور علناً في المشهد الصراعي، والإيحاء القوي، بل المجاهرة بدورها في تسليح التنظيمات الفلسطينية، ومراكمة الترسانات الصاروخية، وذلك بغرض تحقيق أهداف عدة أهمها تعزيز الموقف التفاوضي الإيراني في فيينا وزيادة الضغط على إدارة الرئيس بايدن لتقديم التنازلات الكبرى التي تريدها طهران، وذلك من خلال تأكيد حجم الدور الذي تلعبه إيران في ترسيم قواعد الأمن والاستقرار الإقليمي، وبالأخص من حيث تأثيرها على أمن واستقرار إسرائيل، الحليف التقليدي الأهم للولايات المتحدة، وبالتالي إبراز قدرة نظام الملالي على «خلق» الأزمات والمشاكل لإدارة الرئيس بايدن التي اتجهت لتقديم دعم استراتيجي كامل وغير مشروط لإسرائيل في مواجهة الهجمات الصاروخية التي تشنها التنظيمات الفلسطينية.
نظام الملالي يستخدم تكتيكات متشابهة ومتقاربة في أزمات ومناطق إقليمية مختلفة، فقد لجأ عشية انطلاق مفاوضات فيينا إلى تحريض جماعة الحوثي على زيادة الهجمات الصاروخية التي يشنونها ضد المملكة العربية السعودية، رغم أن ذلك قد حدث بالتزامن تقريباً مع جهود الوساطة العراقية التي توجت مؤخراً بمحادثات «استكشافية» بين الجانبين السعودي والإيراني، ويبدو أن الملالي قد أرادوا ضرب عصفورين بحجر واحد، أي الضغط على الجانب السعودي لتسريع وتيرة الحوار مع إيران، علاوة على تذكير المفاوضين الغربيين في فيينا بحدود قدرة إيران على إلحاق الأذى بحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتوسيع دائرة الفوضى والاضطرابات. هذه التكتيكات طبقها، أو هكذا حاولوا الإيحاء بدورهم، في أزمة غزة، للتأكيد على فاعلية ما يعرف بمحور «المقاومة» الذي يقوده نظام الملالي الإيراني، فضلاً عن أن الملالي يريدون إفساد خطط تطبيع العلاقات القادمة بين إسرائيل ودول عربية أخرى، أو تأجيل هذه الخطط لأجل غير مسمى على أقل التقديرات بالنظر إلى سخونة الأجواء وحساسية الإعلان عن أي خطوات سلام بين إسرائيل وأطراف عربية رسمية في المرحلة الراهنة.
الجانب الإيراني حرص بشكل لافت على إظهار دوره في أزمة غزة، وأبرز الدلائل على ذلك جاء من خلال تصريحات اللواء حسين سلامي قائد الحرس الثوري الإيراني التي ألقاها وبثّها التّلفزيون الرّسمي الإيراني، وأعلن فيها أن إيران «تدعم حرب الفلسطينيين ضد إسرائيل، وظهورهم كأمة مجهزة بالصواريخ»، وهو تصريح يشبه اعتراف الحرس الثوري رسمياً للمرة الأولى بدوره في تسليح جماعة الحوثي اليمنية بالصواريخ المتطورة. والأمر لم يقتصر على ذلك بل إن تصريحات الجنرال سلامي ذاتها قد تضمنت اعترافاً علنياً بمسؤولية إيران عن تفجير حدث مصنع للصواريخ وآخر في مصفاة حيفا وحريق آخر بمصنع طائرات إسرائيلي،رداً على عملية التخريب في منشأة «نتانز» النووية الإيرانية.
الروابط التي أقامها الملالي بين ما حدث في غزة وما يدور في فيينا واضحة ولها أهداف مرسومة بدقة، ولكنها تطرح تساؤلات مشروعة حول خطورة اختطاف القضية الفلسطينية من جانب الملالي، فالشكر الذي وجهته «حماس» على لسان قائدها إسماعيل هنية لإيران ومرشدها الأعلى على دعم غزة يضع أصحاب هذه القضية العادلة في «شرك» النظام الإيراني، ويجعل منها مجرد رقم ضمن شبكة حسابات الملالي المعقدة في فسيسفاء الشرق الأوسط.
قد يحقق الملالي بعض المكاسب السياسية والاستراتيجية من إعلان دعمهم للفلسطينيين في غزة، ولكن الخسارة الفادحة من جراء ذلك تنتظر قضية عادلة، هناك من ضحى وخاض الحروب من أجلها على مدار التاريخ، وعلى ممثلي الفلسطينيين إعادة النظر في وجهة بوصلتهم إن كانوا يبحثون حقاً عن حقوق شعبهم المشروعة.
الحقيقة أن المواجهات الأخيرة في غزة قد أعادت «معركة الصورة» إلى الواجهة مجدداً، وفتحت الباب واسعاً أمام المزايدات التي تقودها أطراف إقليمية محددة، هي إيران وتركيا، بدعم من تنظيمات وجماعات متشددة، وهذه الأطراف تختطف القضية الفلسطينية وتريد احتكار الحديث باسم الفلسطينيين في ظل غياب دور السلطة وضعف قياداتها في الوقت الراهن، ولولا أن الجهود الدبلوماسية المصرية قد نجحت في احتواء التصعيد العسكري لذهبت الأمور في اتجاه آخر لا تحمد عقباه، وعلى العرب أيضاً أن ينتبهوا من الواقع الجديد للقضية الفلسطينية، وأن يدعموا الجهود الرامية للبحث عن سلام نهائي وحقيقي لتفويت الفرصة على المزايدين والمختطفين.