وسط الاهتمام العالمي بالتصعيد الأخير في قطاع غزة، ووسط توقعات سياسية واسعة بأن التوصل إلى تسوية حول عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي الموقع عام 2015، بات وشيكاً، جاءت تصريحات رافائيل جروسي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية لتسلط الضوء بقوة على ما يمثله البرنامج النووي الايراني من خطر وتهديد لا يجب تجاهله، حيث وصف جروسي البرنامج ذاته في مقابلة مع صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، بأنه "مقلق للغاية"، مشيراً إلى أن نظام الملالي يقوم بتخصيب اليورانيوم بدرجات نقاء لا تصل إليها سوى الدول التي تصنع "قنابل" وقال نصاً "تخصيب دولة ما (اليورانيوم) بدرجة نقاء 60 بالمئة أمر خطير للغاية … لا تصل إلى هذا المستوى سوى الدول التي تنتج قنابل"، وأضاف أن مستوى النقاء "60 بالمئة يكاد يكون مستوى إنتاج السلاح، التخصيب التجاري من اثنين إلى ثلاثة (بالمئة)"! ولاشك أن هذه التصريحات لا تضيف معلومة جديدة للأطراف المعنية والمراقبين ولكن مصدر أهميتها ينبع من كونها تمثل حديثاً مباشراً وصريحاً من المسؤول الأول عن مراقبة البرنامج النووي الايراني، والأهم من ذلك أن يتحدث بشكل مباشر وواضح بدلاً من تقارير الوكالة التي يرأسها والتي تأتي غالباً في شكل لا يشير مباشرة إلى الخطر ولا يغفل المعلومات ولكنه لا يبني استنتاجات محددة بشأنها كون هذه التقارير تعتمد على الاحصاءات والأرقام ولا تحاول الوصول إلى مستوى التحليل والاستنتاج كي توفر فرصة لحدوث توافق بين أعضاء الوكالة حول مضامينها.
المهم ـ برأيي ـ في تصريحات جروسي أنه أشار إلى أن مستوى تخصيب اليورانيوم في إيران يتطلب "مراقبة يقظة"، وأن مستوى البحث والتطوير الذي تم الوصول إليه يُعد مشكلة، وتابع قائلاً "لا يمكنك إعادة الجني إلى القمقم – بمجرد أن تعرف كيف تصنع شيئا، والسبيل الوحيد لكبح ذلك هو من خلال التحقق"، وأضاف "برنامج إيران نما وأصبح أكثر تطورا، لذلك فإن العودة المباشرة لاتفاق عام 2015 لم تعد ممكنة. ما يمكن عمله هو إبقاء أنشطتها دون مستويات 2015"، وهو كلام يعكس مستوى الخطر والتهديد الذي بلغه البرنامج النووي الايراني ليس فقط في ضوء بلوغه مستويات تخصيب واضحة الأهداف والنوايا، ولكن لأن جروسي قال بوضوح أن "الجني" قد خرج من "القمقم" وأن بلوغ هذا الحد من مراكمة المعرفة النووية يعني أن الأمور لن تعود للمربع الأول مهما حدث، وأن الأمر بات بيد المراقبة اليقظة وتلك مسألة غير مأمونة بأي حال في ظل مراوغات وخداع نظام الملالي لمفتشي الوكالة ناهيك عن السرية البالغة التي تعد السمة الرئيسية للبرنامج النووي الايراني!
الحقيقة إذاً أن مستوى الخطر والتهديد الفعلي الناجم عن البرنامج النووي الايراني ربما يفوق بمراحل مستوى التهديد الكبير الذي تكشفه تصريحات جروسي نظراً لأن السري في هذا البرنامج يوفق بمراحل المعلن من منشآت وأبحاث، وبالتالي على منطقتنا والعالم أن تدرس هذه التصريحات جيداً وأن يدرك الجميع معنى ما اشار إليه المدير العام لوكالة الطاقة الذرية من أن "الجني" الايراني قد خرج من "القمقم"، وأن جهود كبح هذا التوده لا تعني منعه أو الحيلولة دون الوصول إليه بل تعني فقط تأجيل هذا الوصول أو تقييده، ولكن علينا أن نتذكر أن هذا التقييد أو التأجيل يظل رهن إرادة الطرف الايراني ومدى رغبته الفعلية في التعاون والتوقف عند مرحلة "المعرفة" رغم أن المسافة الزمنية بين المعرفة والتنفيذ لا تكاد تذكر وأن الأمن والاستقرار بات رهن "نوايا" الملالي بعد فشل الآليات الدولية في "فرملة" الاندفاع للوصول إلى حافة التهديد النووي.
لست من هواة التهويل، ولكنني لست من هواة التهوين أيضاً، وكنت ـ ومعي كثيرون ـ حتى وقت قريب نتشكك في أي تصريحات أو تلميحات تؤكد أن الملالي على حافة امتلاك "القنبلة" بحكم غياب المعلومات الرسمية الدقيقة حول هذه المسألة ولاسيما من الوكالة الدولية المعنية بمراقبة هذا البرنامج وفي ظل بقاء توافر معلومات معظمها إما قائم على التحليل والاستنتاج أو معلومات اسخباراتية لا يوجد سبيل للتحقق من مصداقيتها تماماً، ولكن تصريحات جروسي التي لا تعبر ـ غالباً ـ عن المستوى الواقعي للخطر والتهديد الايراني كونه بالأساس مسؤولا دولياً لا يريد الصدام مع نظام الملالي بل يريد الابقاء على خيوط التعاون والتواصل بين الملالي ومفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، هذه التصريحات تمثل بالنسبة لي تأكيداً واضحاً بأن المنطقة والعالم عليها أن تتعامل مع هذا المستوى من التهديد بواقعية أكبر والبحث عن حلول أكثر جدية من أجل ضمان ألا يقع سباق تسلح نووي جديد في منطقة مليئة بعوامل التوتر والصراع التي تتنوع بين السياسي والمذهبي والتاريخي والديني ناهيك عن أسباب التوتر الأخرى الكامنة في أرجاء منطقة الشرق الأوسط.
التوصل إلى تفاهم في محادثات فيينا حول العودة للالتزام بشروط اتفاق عام 2015 بشأن البرنامج النووي الايراني، لايجب أن يخفي الحقيقة الأكثر أهمية التي تعبر عنها تصريحات المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والأهم أن على دولنا أن تتعامل مع المعطيات الجديدة بما تراه مناسباً للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية على الأمدية الزمنية المختلفة من دون الاعتماد على تطمينات لا وجود لها في الواقع كما حدث عام 2015، كي تتفادى الوقوع في دائرة التهديد والابتزاز الايراني، وكي لا تفيق يوماً على صوت "الجني" وقد خرج من "قمقمه".