في بعض مراحل تطوره السياسي، سمح نظام الملالي بوجود هامش مناورة في غطاء ما يعرف بمعادلة الاعتدال والتشدد، فتارة يأتي بخاتمي وتارة يجيء بنجاد، وقد حدث ذلك منذ أن تمكن المرشد الأعلى علي خامنئي من منصبه، حيث يلاحظ أنه البدايات قد جاءت توافقية بمعنى أن خامنئي جلس على كرسي المرشد خلفاً للخميني في حين جلس هاشمي رفسنجاني على كرسي الرئيس خلال الفترة من 1993 - 2001، وهذه المعادلة كانت الضامن الأساسي لعبور المرحلة الأكثر حرجاً في تاريخ نظام الملالي وقتذاك.
والمؤكد أن معظم مراحل تطور نظام الملالي خلال السنوات والعقود السابقة قد شهدت توزيعاً للمناصب والأدوار بين ما يعرف بالتيار الإصلاحي والتيار المتشدد، والأمر لم يقتصر على منصب الرئاسة بل تم تقاسم السلطة في مجمل مؤسسات النظام مثل مجلس الشورى (البرلمان) الذي كان يلعب الدور الأهم في إطار لعبة توزيع الأدوار، وبديهي أن يضيق الخناق على تيار الاعتدال كلما تعلق الأمر بمؤسسات أكثر نخبوية وتأثيراً داخل النظام مثل مجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام ومؤسسة القضاء.
الحاصل الآن أن النظام الإيراني - للمرة الأولى - بات يخلو ممن يوصفون بالاعتدال أو الإصلاحيين، حيث خلت منهم الساحة السياسية الرسمية الإيرانية تماماً، وباتت جميع المؤسسات في قبضة المتشددين وباتت المنافسة بين المتشدد والأكثر تشدداً، فما هو تأثير ذلك على السلوك والسياسة الخارجية الإيرانية؟ وهل ينتج هذا المشهد إيران مختلفة كلياً عما سبق، وهل صحيح أن الأسوأ في السلوك والنهج الإيراني قادم لا محالة؟!
الحقيقة أن إجابة هذا السؤال ليست بيد نظام الملالي ولكنها بيد البيئة الإقليمية والدولية، بمعنى أن هذا المشهد الإيراني المتشدد قد رُسم بدقة للتعاطي مع ظروف يحسبها الملالي الأشد حساسية في تاريخ نظامهم، الذي يرون أنه يمر بعنق زجاجة خطير للغاية، وأن المرور لا بد وأن يكون في مصلحة النظام ويحقق له عوائد استراتيجية تضمن بقائه واستمراره في السلطة.
هناك معطيات مهمة لا بد من قراءتها وتحليلها بعناية شديدة أولها ما يتصل بعلاقة الملالي بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي العلاقة التي تمر في الوقت الراهن بمرحلة غير مسبوقة، تعكس اتجاه الملالي للعب آخر أوراقهم للإفلات من مأزق العقوبات الأمريكية الصارمة، إذ طالما حرص الملالي على إبقاء علاقتهم بالوكالة الدولية بعيداً عن التوتر الحاصل في علاقتهم مع الولايات المتحدة، باعتبار أن الوكالة هي «الشاهد» الرئيس الذي يمكن للمجتمع الدولي الاحتكام إليه للتعرف إلى حقيقة ما يدور بين طهران وواشنطن، وكذلك مدى صحة الشكوك والاتهامات التي توجهها الأجهزة الاستخباراتية والدوائر السياسية الدولية لنظام الملالي بالسعي لامتلاك سلاح نووي. ولذا فإن مجازفة الملالي بلعب ورقة الوكالة الدولية ووضع علاقتهم معها على المحك يعني اللجوء إلى خيار أشبه بالانتحاري، ولكنه لا يستهدف بالضرورة التصعيد نحو المواجهة، بل يرمي إلى الدفع بأقصى قوة في إطار سياسة حافة الهاوية التي يمارسها الملالي مع الإدارة الأمريكية الجديدة.
يدرك الملالي أن هناك معطيات استراتيجية جديدة لديهم، وأن شكوك الوكالة الدولية للطاقة الذرية في وجود أسرار لم تكتشف في البرنامج النووي الإيراني، وأن تقاريرها التي تتحدث عن وجود كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب بدرجة 60 في المائة، هذه التقارير تعزز موقفهم التفاوضي، حتى أن البعض يعتقد أن التطرف في إدارة العلاقة مع الوكالة كان يهدف بحد ذاته إلى دفعها لإصدار تحذيرات من اقتراب إيران نووية، كما حصل بالفعل عندما تحدث المدير العام للوكالة رافايل غروسي وتحذيره الشهير مؤخراً من خروج «الجني» من «القمقم»، وهو أمر يراه البعض ـ وأنا منهم ـ يسعد الملالي، كون تأثيره على المفاوض الأمريكي أكبر بكثير من تأثير التهديدات التي تصدر على لسان قادة الملالي، وهو ما حدث بالفعل حين أشار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى أن إيران ربما تكون على بعد أسابيع من امتلاك مواد لسلاح نووي إذا واصلت خرق الاتفاق النووي.
الحاصل إذاً أن المرشد الإيراني الأعلى قرر التقدم خطوة أخيرة نحو حافة الهاوية ولعب كافة الأوراق من أجل انتزاع تنازلات أمريكية كبرى تزيح العقوبات الصارمة التي تثقل كاهل النظام الإيراني، وأن هذه الورقة تستلزم إعادة بناء وتركيب وجه النظام وارتداء قناع متشدد للغاية، حتى أنه قرر الدفع برئيس مُدرج على قوائم العقوبات الأمريكية، ويتسم بالثورية والتشدد، وهذا كله يعني أن ترك الأمور على حالها سيدفع الملالي لتبني المزيد من الخطوات الراديكالية إقليمياً ودولياً.
يدرك الغرب جيداً حجم تأثير غياب أي وجه «معتدل» يمكن الحديث معه عن الساحة السياسة الإيرانية، فلا يعرف أحد من يخلف محمد جواد ظريف في قيادة الدبلوماسية الإيرانية، بل ليس معروفاً بعد أن كان المفاوض الإيراني الأبرز في فيينا عباس عراقجي سيكمل دوره أم يغادر مع رؤسائه، وكل هذه أمور تضغط على مفاوضات فيينا، وتدفع باتجاه الإسراع بتقديم التنازلات المطلوبة إيرانياً، باعتبار أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يريد التعجيل بتسوية ملف الاتفاق النووي الإيراني والتفرغ للتحدي الصيني المتزايد لنفوذ بلاده، ناهيك عن مؤشرات التوتر المتصاعدة في علاقات روسيا مع الغرب.