تناولت مكالمة هاتفية جرت مؤخراً بين الرئيسين الايراني والفرنسي، ابراهيم رئيسي وايمانويل ماكرون، ملف المفاوضات النووية التي توقفت منذ جولتها السادسة ولم تنعقد حتى الآن الجولة السابعة التي ذكرت التقارير أنها "الجولة الحاسمة"، منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق حسن روحاني وفريقه التفاوضي وتشكيل حكومة ايرانية جديدة.
رئيسي أكد خلال الاتصال الهاتفي مع نظيره الفرنسي أن بلاده "لا تعارض المفاوضات التي تعود علينا بالفائدة، لكن أجندة المفاوضات ونتيجتها يجب أن تؤدي إلى رفع العقوبات عن إيران"، مضيفا أن "التفاوض من أجل التفاوض نعتبره دون جدوى"، معرباً عن استعداد طهران لإجراء محادثات نووية لكن ليست تحت ضغط غربي، وهذا يعني أن الملالي لم يقرروا بعد موعد استئناف مفاوضات فيينا وأن ما يجري من تحركات دبلوماسية واتصالات هاتفية يأتي في إطار "جس النبض" مع الإدارة الايرانية الجديدة، حيث يبدو أن الولايات المتحدة تريد استعجال موعد الجولة السابعة حيث يلاحظ تكرار تصريحات المبعوث الأمريكي الخاص إلى إيران، روبرت مالي، بشأن عدم قدرة إدارة الرئيس بايدن على "الانتظار للأبد" حتى تقرر إيران استئناف المحادثات بشأن العودة إلى الاتفاق النووي، ولكن يلاحظ بالمقابل ان واشنطن التي كانت تتوقع انعقاد الجولة الساعة منتصف سبتمبر الجاري لم تضع "خطاً أحمر" أو سقفاً زمنياً ينتهي عنده النقاش حول استئناف المفاوضات لاسيما أن كل الذرائع التي يمكن أن يتحجج بها الملالي قد انتهت بإعلان تشكيل الحكومة وموافقة البرلمان عليها.
الجانب الروسي لاحظ من جانبه مماطلة الملالي في التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لذا فقد دعا وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف طهران لابداء التفهم وبذل جهود إضافية في هذا الشأن، واعتبر أن فترة التوقف في مفاوضات فيينا قد طال امدها، وداعياً العواصم الغربية إلى تبني ماوصفه بنهج متوازن ومسؤول وعدم التصرف كما في الماضي لتفادي تعقيد الموقف.
روسيا ربما في إحدى المرات النادرة تبدي استعدادها لتقديم الدعم للخروج من مأزق الجمود الذي سيطر على مفاوضات فيينا، حيث أعلن مندوب روسيا الدائم لدى المنظمات الدولية في فيينا، ميخائيل أوليانوف، استعداد موسكو للحوار مع واشنطن حول العودة إلى الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني، وجاء ذلك تعليقا على زيارة المبعوث الأمريكي الخاص لشؤون إيران روبرت ميلي إلى موسكو وباريس خلال الفترة بين 7 و10 سبتمبر الجاري لإجراء مشاورات حول العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران بحسب إعلان الخارجية الأمريكية.
الواقع أن إدارة الرئيس بايدن تبدو في موقف حرج للغاية على صعيد ملفات خارجية عدة، وفي مقدمتها الملف النووي الايراني، وتحتاج إلى حلحلة هذا الملف بأي شكل من أجل تحقيق اختراق يغطي على سلسلة الاخفاقات التي تحققت في السياسة الخارجية خلال الأشهر الأخيرة، فالكثير من الخبراء يعتقدون أن نهاية الانتقادات المرتبطة بالانسحاب من أفغانستان لن تتحق ما لم ينجح الرئيس في احياء الاتفاق النووي مع إيران مع وعد أو يتعامل مع التهديدات النووية والصاروخية الايرانية بالشكل الذي يضمن تحييد هذه التهديدات والحد منها خلال المدى المنظور على أقل التقديرات.
المعضلة الحقيقية التي تواجه إدارة الرئيس بايدن فيما يتعلق بالتفاوض مع ملالي إيران أن الأخيرين يدركون أن البيت الأبيض يعاني مأزقاً استراتيجياً صعباً للغاية، وسيحاولون الضغط لأقصى مدى ممكن لانتزاع تنازلات كبرى من الولايات المتحدة حال الموافقة على استئناف التفاوض حول الاتفاق النووي، ويبدو أن فريق التفاوض الأمريكي سيكون مهيئاً لمنح الملالي ما يريدون بالنظر إلى معطيات وتوازنات البيئة التفاوضية؛ ولعل زيارة المبعوث الأمريكي روبرت مالي لروسيا في هذا التوقيت توحي بأن واشنطن تبحث عن طوق انقاذ للمفاوضات بأي شكل وربما بأي ثمن، وليس هناك أفضل من روسيا، الصديق الأقرب للملالي، لتقديم يد العون لواشنطن في هذه الظروف.
يبقى رهان الملالي المتشددين الذين يتصدرون المشهد الايراني حالياً على مايصفونه بهزيمة الولايات المتحدة كأحد أخطر عقبات استئناف مفاوضات فيينا، فالملالي ينظرون للانسحاب الأمريكي من أفغانستان كخطوة تصب في مصلحتهم ويسعون لترسيخ واقع استراتيجي اقليمي جديد يعزز نفوذهم ويصب في مصلحتهم بعد خروج الولايات المتحدة من العراق وأفغانستان، ولكن غياب البدائل الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع هذه التحديات وعدم ظهور الخطة "B" عدا التلويح بفرض المزيد من العقوبات، كلها عوامل تضعف الموقف التفاوضي الأمريكي وتشجع ملالي إيران على المزيد من التسويف والمماطلة من أجل استنزاف طاقات الدبلوماسية الأمريكية وإحراجها بشكل متزايد بما قد يدفعها لتقديم المزيد من التنازلات للملالي في حال استئناف المفاوضات.
استراتيجية التفاوض الايرانية الجديدة قائمة على إبداء التشدد وإظهار عدم المبالاة بالعقوبات المفروض على طهران، والسعي لكسب أكبر وقت ممكن من الوقت قبل الموافقة على انعقاد جولة تفاوضية جديدة كي يزداد موقف الرئيس بايدن حرجاً، ويزداد الموقف الايراني قوة في ظل تسارع وتيرة تخصيب اليورانيوم، حيث تشير أحدث تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن إيران تمتلك حوالي 10 كيلوجرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وقالت الوكالة منتصف أغسطس الماضي أن إيران عجّلت تخصيب اليورانيوم إلى نسبة قريبة من تلك اللازمة لصنع سلاح نووي.