في خطوة لا تخلو من معادن ودلالات مهمة، توصلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإيران إلى اتفاق بخصوص عمليات المراقبة على البرنامج النووي الايراني، وبموجب الاتفاق ستعود طهران للسماح للوكالة بالاطلاع على سجلات كاميرات المراقبة الموضوعة في عدد من المنشآت النووية الايرانية، ما يعني أن الوكالة بات بامكانها استئناف مراقبة عمليات تخصيب اليورانيوم في هذه المنشآت.
اللافت أن مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي قد أجرى خلال زيارته مؤخراً لإيران مفاوضات بهذا الشأن مع محمد إسلامي نائب الرئيس الايراني رئيس منظمة الطاقة الذرية، وما يعني أن الملالي قد وضعوا برنامجهم النووي تحت إشراف واحد من أبرز القيادات المتشددة للحرس الثوري، حيث كان إسلامي يشغل منصب رئيس مركز أبحاث الحرس، وتشير تقارير المعارضة الايرانية إلى أن إسلامي قد لعب دوراً رئيسياً في التواصل مع شبكة بعد القادر خان أبو القنبلة النووية الباكستانية من اجل تدشين مشروع نووي إيراني في ثمانينيات القرن الماضي.
الواضح أن موافقة نظام الملالي على عودة رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتعارض مع قرارات مجلس الشورى الايراني التي تم بموجبها وقف التعاون مع الوكالة، حيث ارتهن المجلس العلاقة مع الوكالة والسماح لها بالاطلاع على ملف صور الكاميرات المسجلة حتى يتم رفع العقوبات، أو تصعيد الاجراءات الايرانية، ولكن الحاصل أن العقوبات لم ترفع ومع ذلك عاد الملالي للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتراجعوا عن رفضهم لزيارة المدير العام للوكالة بل وافقوا على كل مارفضته حكومة حسن روحاني السابقة!
الحقيقة أن الفريق التفاوضي الايراني الجديد لا يمتلك رؤية استراتيجية واضحة بشأن إدارة أزمة الاتفاق النووي، وبات واضحاً أن دفع الأمور في عهد حسن روحاني باتجاه التشدد لم يكن يستهدف سوى حرمان روحاني وفريقه التفاوضي مع تحقيق أي انجاز سياسي في نهاية ولايتهم، علاوة على أن الملالي قد وجدوا أنفسهم في مواجهة إدارة أمريكية تبحث عن مداواة جراحها عقب الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، وقد لا تجد غضاضة في التصعيد بأي شكل ضد إيران لصرف الأنظار عما حدث في مطار كابل.
استمرار التشدد الايراني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان يعني بالضرورة إصدار مجلس المحافظين بياناً يحيل فيه الملف الايراني إلى مجلس الأمن الدولي، حيث يمكن لوشنطن أن تجد الغطاء المناسب لتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الايرانية، أو على الأقل منح ضوء أخضر لإسرائيل لتنفيذ هذه المهمة بدعم ومباركة أمريكية، وبالتالي فإن ماحدث ليس سوى تأجيل للمواجهة بين الملالي والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولكن المعضلة تكمن في أن الوكالة تطرح التساؤلات وتثير الشكوك ولكنها لا تستطيع ـ حتى الآن ـ بناء يقين كامل ودقيق حول مسائل مثل كميات اليورانيوم المخصب التي تمتلكها إيران، ولاسيما تلك التي استطاع النظام مراكمتها خلال الأشهر الماضية منذ انقطاع كاميرات الوكالة عن الرصد والمراقبة، لذا فإن المدير العام للوكالة قد عبر في الاجتماع الأخير لمجلس المحافظين عن قلقه العميق بشأن كميات اليورانيوم المخصب في المنشآت النووية السرية التي يديرها النظام الايراني.
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحدثت في تقريرها الأخيرة عن أن إيران عززت مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة تفوق المسموح به في اتفاق 2015، والذي لا يسمح لإيران بنسبة تخصيب تزيد عن 67ر3%، وبالتالي يفترض أن لديها مخزون يبلغ 203 كيلو جرام من اليورانيوم المخصب، ولكن الوكالة قدرت في تقريرها مخزون ايران الاجمالي حالياً بنحو 2441 كيلو جرام بخلاف الموجود في المنشآت السرية لأن هذه التقديرات تمت بناء على المعلومات المتاحة لدى الوكالة ولا تتضمن ما يخص التخصيب السري لليورانيوم. وإذا أضفنا إلى ذلك ان هناك أكثر من 10 اسئلة طرحتها الوكالة منذ فترة ويتهرب الملالي من الرد عليها، لأدركنا أن نظامهم في مأزق حقيقي وإن كان يجيد التظاهر بعكس ذلك. لذا فإن الكرة الآن في ملعب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي يتعين عليها إحكام تحقيقاتها للحصول على إجابات عن كل التساؤلات المثارة حول جوانب الغموض في البرنامج النووي الايران، فالقضية ليست في احياء الاتفاق النووي من عدمه بل في الحصول على معلومات وافية بشأن القدرات النووية الايرانية، لأن الاتفاق على إحياء الاتفاق من دون وجود آليات للتحقق من تخلي إيران عن انتهاكاتها والتأكد من مخزون اليورانيوم المخصب الذي يحتفظ به الملالي، لن يكون ذا جدوى حقيقية، ولا يمكن ارتهان الأمن والاستقرار الاقليمي والعالمي لنوايا نظام يجيد المراوغة والخداع ويخفي نواياه الحقيقية بشكل سافر.
الخلاصة أن عودة الملالي لاستئناف التعاون مع وكالة الطاقة الذرية ليس سوى تكتيك خداعي لتفويت فرصة إحالة القضية لمجلس الأمن الدولي والايحاء بمرونة ابراهيم رئيس وفريقه التفاوضي، ولكن تراجع الملالي عن تشددهم من الوكالة يبعث أيضاً برسالة للولايات المتحدة بشأن استعدادهم لاستئناف التفاوض حول القضايا الشائكة في جنيف.