كما كانت تشير العديد من الشواهد في الأسابيع القلائل الماضية، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الايرانية، سعيد خطيب زادة، أن المفاوضات النووية سوف تستأنف في جنيف خلال الأسابيع القادمة وأنه تم إبلاغ القوى الدولية الكبرى المعنية (روسيا والصين وألمانيا وبريطانيا وفرنسا) بهذا القرار. ولاشك أن قرار استئناف مفاوضات جنيف لم يكن مفاجئاً بحسب كل المعطيات، التي كانت تشير إلى أن الجانب الايراني قد استمر في ممارسة سياسة حافة الهاوية التي يفضّلها، ساعياً إلى تحسين موقفها التفاوضي والفوز بما يريد من تنازلات من إدارة الرئيس بايدن، وقد حقق بالفعل ما أراد من خلال رفع منسوب المخاوف والقلق الغربيين من امتلاك قدرات نووية.
الاشارة الأهم، برأيي، أن المتحدث باسم الخارجية الايرانية قال إن "من الضروري أن يقدم فريق السياسة الخارجية تقييمه النهائي حول كيفية استئناف المفاوضات قبل أن نعود إلى فيينا"، وهذا يطرح تساؤلات حول مدى جاهزية الرؤية التي يفترض أن فريق التفاوض الايراني الجديد قد صاغها كإطار عمل لمفاوضات جنيف، واعتقد أن وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان وفريقه التفاوضي لايمتلك رؤية بخلاف التعليمات التي تلقاها من المرشد الأعلى خامنئي وابراهيم رئيسي، وهي التعليمات القائلة بأن استئناف المفاوضات مرهون بالوصول إلى رفع كامل للعقوبات الأمريكية، أما كيف يتحقق ذلك وماهي آليات التفاوض واستراتيجياته وخارطة الطريق اللازمة للوصول إلى الهدف، فهذه جميعها لم تكتمل بعد بحسب اعتقادي.
الواقع يقول أم نظام الملالي قد استفاد طيلة الفترة الماضية من نتائج لعبة كسب الوقت التي مارسها منذ أشهر عدة لمراكمة المزيد من كميات اليورانيوم المخصب بما يضع الدوائر الغربية في موقف قلق للغاية خشية اقتراب طهران من امتلاك قدرات نووية، حيث ارتكز تكتيك متشددي الملالي على تسريع وتيرة تخصيب اليورانيوم كي يمكن ان تكون هذه الورقة معادلاً موضوعياً قوياً وورقة ضغط فاعلة لانتزاع رفع كامل للعقوبات الأمريكية.
الملاحظ أن نظام الملالي قد عمل خلال الفترة الأخيرة على مسارات متوازية لتعظيم الضغط على الطرف الأمريكي، حيث يلاحظ أن هناك مراكمة لليورانيوم عالي التخصيب وبكميات كبيرة، وهناك إصرار مواز على تأكيد فاعلية ودقة الصواريخ الاستراتيجية الايرانية والطائرات المسيرّة المتطورة، والتي بلغت مستويات عالية من دقة التوجيه والقدرة على تدمير الأهداف بعيدة ومتوسطة المدى، ما يعكس حرص الملالي على إبلاغ العواصم الغربية رسالة مفادها أن الترسانة التسليحية الايرانية تنتظر انتاج سلاح نووي كي تكتمل عناصر فاعليها وقدراتها التدميرية، ماينتج بدوره ضغوطاً استراتيجية هائلة على إدارة الرئيس بايدن التي تدرك تبعات انضمام إيران إلى النادي النووي بكل ما يعنيه ذلك من تحولات نوعية كبرى في موازين القوى الاستراتيجية اقليمياً ودولياً.
والمؤكد أن موقف الولايات المتحدة في مواجهة ملالي إيران سيزداد صعوبة وتعقيداً في ظل تأكيد البيت الابيض على عدم الرغبة في خوض حروب جديد بمنطقة الشرق الأوسط والاعتماد بشكل شبه كامل على الدبلوماسية في التعامل مع الأزمات، وهو مايرى فيه الملالي ضعفاً وتراجعاً في القوة والنفوذ الأمريكي عالمياً، ويفترض أن هذه الصعوبة والتعقيد سوف تزداد في ظل تعرض إدارة الرئيس بايدن لضغوط كبيرة من جانب حلفاء شرق أوسطيين في مقدمتهم اسرائيل، للتصدي للنفوذ والتهديد الايراني، أو منح ضوء أخضر لإسرائيل للقيام بعملية عسكرية استباقية منفردة لمواجهة الخطر النووي الايراني المحتمل قبل وقوعه.
الواضح أن المفاوض الأمريكي سيذهب إلى فيينا وليس في جعبته سوى ورقة التهديد بتوقيع المزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران، وهي الورقة التي لم تخيف نظام الملالي ليس لانعدام تأثيرها ولكن لأن هذا النظام قد تجاوز أصعب مراحل تلك العقوبات ولم يعد يكترث بتداعياتها وتأثيراتها الكارثية على الاقتصاد الايراني، بل يرى أن مجرد البقاء في ظل هذه العقوبات يمثل انتصاراً للملالي!
الشواهد تقول أن ملالي إيران يستعدون لمفاوضات جنيف وهم يشعرون بالقوة حيث يدركون أن الرئيس بايدن لا يستطيع التوقيع على قرار شن حرب ضدهم في الظروف الراهنة، خشية أن تتسبب تلك الحرب في مواجهة اقليمية واسعة لا يمكن التعرف مسبقاً إلى نتائجها وتداعياتها المحتملة ولاسيما على أمن الحليف الاسرائيلي، وبالمقابل فإن الفشل الأمريكي في احياء الاتفاق النووي يعني فقدان مصداقية الرئيس بايدن وتعريض أمن اسرائيل للخطر، وبالتالي فإن كل الطرق تصب بمصلحة الملالي وتدفع باتجاه حصولهم على تنازلات أمريكية كبرى في مفاوضات جنيف.
باعتقادي أن المكسب الايراني الأكبر في المفاوضات المقبلة هو دفع بقية الأطراف للتركيز على ضمان عودة إيران للالتزام بالبنود الواردة في اتفاق عام 2015، ولاسيما بعد أن تجاوزت سقف تخصيب اليورانيوم بمراحل كبيرة، وكيفية التثبت من تنفيذ هذه الالتزامات، وهذا يعني استبعاد أي طرح بشأن التفاوض حول قضايا حيوية أخرى مهمة مثل برنامج ايران الصاروخي أو النفوذ الاقليمي الايراني.
الخلاصة أن واشنطن تبدو مستعدة لتقديم ماتريده طهران، ولكن شريطة أن تعود الأخيرة للاتفاق النووي بأي شكل ومهما كانت التكلفة السياسية والاستراتيجية، وتبقى المعضلة الحقيقية في صراع الارادات بين الجانبين ومن يعود أولاً للاتفاق، حيث يرفض الملالي العودة قبل رفع العقوبات الأمريكية بشكل كامل، بينما تطالب واشنطن بعودة الملالي أولاً، ولكن الأرجح أن يتم ـ بمساعدة الجانب الروسي ـ التوصل لصيغة تقضي بالعمل بمبدأ الخطوة مقابل خطوة بما يحفظ للطرفين ماء الوجه ويتيح لكل منهما الادعاء بتحقيق نصر سياسي.