وسط تضارب التوقعات والتصريحات حول مصير المفاوضات النووية التي بدأت منذ فترة في جنيف بين إيران وممثلي مجموعة +5+1" حول إحياء الاتفاق النووي، ذكرت صحيفة "نيوريورك تايمز" نقلاً عن تقرير صادر عن "معهد العلوم والأمن الدولي"، وهي مجموعة مستقلة متخصصة في تحليل النتائج التي توصلت إليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن تخصيب إيران لليورانيوم خلال الأشهر الماضية بدرجة نقاء 60% قد جعل طهران قادرة على إنتاج وقود قنبلة واحدة "في غضون شهر واحد".وقدّرالتقرير أنه بإمكان إيران "إنتاج وقود السلاح الثاني في أقل من ثلاثة أشهر، والثالث في أقل من خمسة أشهر".
الحقيقة أن محتوى التقرير الأخير ليس مفاجئاً للمراقبين بل يتسق تماماً مع تحذيرات رسمية صدرت عن مسؤولين اسرائيليين وأمريكيين، حيث سبق لوزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد أن حذر مؤخراً من أن إيران أصبحت "على وشك" الحصول على ترسانة نووية، وسبقه انتوني بلينكن الذي قال في فبراير الماضي أن إيران ربما تكون على بعد أسابيعمن امتلاك مواد تصنيع سلاح نووي إذا واصلت خرق الاتفاق النووي.
واعتقد أن هذه التحذيرات تأتي في توقيت جيد للغاية بالنسبة لنظام الملالي الايراني، الذي يسعى إلى زيادة الضغوط السياسية على الولايات المتحدة من أجل تقديم تنازلات كبرى في حال الاتفاق على انعقاد الجولة السابعة من مفاوضات جنيف، فالواضح أن ابراهيم رئيسي وفريقه التفاوضي الجديد لا يريدون الذهاب إلى التفاوض قبل الحصول على تعهدات قاطعة بما سيحصلون عليه.
واعتقد أن تحليل سلوك نظام الملالي الايراني طيلة السنوات والعقود السابقة يشير إلى أنه لا يمكن الوثوق بما يعلنه أو يكشفه لوكالة الطاقة الذرية حول تخصيب اليورانيوم، والمؤكد أن المتشددين الذين يسيطرون على الحكم حالياً في إيران يتجهون إلى امتلاك قدرات تسليحية نووية اعتقاداً منهم بأن وجود هذا الرادع يمثل الورقة التفاوضية الأقوى بيد إيران، وأن العودة لشروط الاتفاق النووي في هذه المرحلة تمثل خسارة استراتيجية فادحة لهم، لاسيما أن القدرات التسليحية الايرانية في مجالي الصواريخ والطائرات المسيرّة قد حققت تقدماً كبيراً وباتت تمثل تهديداً نوعياً حقيقياً على الصعيدين الاقليمي والدولي.
الإشكالية الحقيقية أن إدارة الرئيس بايدن تدرك جيداً حساسية المرحلة الصعبة التي يقف عندها البرنامج النووي الايراني، ولكنها لا تمتلك خيارات وبدائل استراتيجية فاعلة للتعامل مع هذا المأزق، لذا فهي لا تستطيع كبح جماح الاندفاع الايراني نحو مراكمة اليورانيوم المخصب والاقتراب من السقف اللازم لتصنيع القنبلة، ولا تستطيع كذلك تقديم التنازلات الكبيرة التي يطالب بها ملالي إيران، لاسيما في التوقيت الراهن الذي تواجه فيه إدارة الرئيس بايدن اتهامات عنيفة من الداخل والخارج بسبب فوضى الانسحاب من أفغانستان.
وباعتقادي، فإن المأزق الأخطر للولايات المتحدة يتمثل في عدم قدرتها على التلويح بالعصا في وجه الملالي في الوقت الراهن، حيث يصعب على البيت الأبيض إصدار أمر بتوجيه ضربة عسكرية لإيران ولم يمر سوى وقت قصير على طي صفحة التدخل العسكري في أفغانستان، ناهيك عن تأكيد الرئيس بايدن بأن عصر التدخلات العسكرية الكبرى قد انتهى إلى غير رجعة، وبالتالي فإن خيارات واشنطن تبقى محصورة في زيادة العقوبات والعمليات السيبرانية ضد منشآت البرنامج النووي الايراني، والأخيرة تحديداً لم تستطع اثبات فاعلية كبيرة في اجهاض البرنامج أو حتى تعطيل العمل فيه لبضعة أشهر.
في ضوء محدودية الخيارات الاستراتيجية الأمريكية وغياب القدرة على مجرد التلويح بالعصا في وجه التحدي الايراني للنفوذ الأمريكي، يصبح من الصعب للغاية بناء توقعات دقيقة حول سيناريو الخطوة الأمريكية المقبلة، لاسيما أن الولايات المتحدة لا تواجه فقط تحدياً إيرانياً بل تواجه كذلك ضغوطاً اسرائيلية كبيرة لمنح تل أبيب ضوءاً أخضر للتصدي للتهديدات النووية الايرانية، وهو السيناريو الأخطر الذي تخشاه إدارة الرئيس بايدن كونه قد يفتح الباب واسعاً أمام اشتعال حرب اقليمية واسعة بما يضطر الولايات المتحدة للتدخل عسكرياً لحماية الحليف الاسرائيلي، أهم شريك استراتيجي لواشنطن في الشرق الأوسط.
السيناريو الأسوأ في ظل المعطيات المطروحة أن ينجح الملالي في كسب الوقت والافلات بقدرات نووية تضع الجميع أمام أمر واقع يقلب طاولة التوازنات الاستراتيجية، اقليمياً، رأساً على عقب ويفتح الباب أمام احتمالات كارثية للأمن والاستقرار العالميين.