يعكس السلوك الايراني في إدارة الأزمة الحاصلة مع أذربيجان مدى استهتار نظام الملالي بالقوانين والمبادىء والمواثيق الدولية، فكل مشكلة هذا النظام مع الأذريين ينحصر في مزاعمه حول تحول أراضي أذربيجان إلى "ساحة يسرح ويمرح فيها الاسرائيليون". ورغم أن الملالي يعترفون بـ "متانة" العلاقات بين إيران وأذربيجان كما أكد وزير الخارجية حسين عبد اللهيان، فإن المزاعم الخاصة بوجود قوات اسرائيلية في أذربيجان قد دفعت الملالي لاثارة التوتر والتصعيد مع الجار الأذري رغم "متانة" العلاقات!
أذربيجان دولة ذات سيادة ولها حق التصرف على أراضيها بما لا يتعارض مع مبادىء حسن الجوار واحترام قواعد القانون الدولي، وهذا الحق يعني سيادة الدولة العليا المطلقة على اقليمها، وبالتالي فإن مايتعلق بوجود اسرائيلي على الحدود الايرانية ـ الأذرية يفترض أنه لا يمس إيران في شىء ولا يعتبر "تغيير جيوسياسي في المنطقة" كما يعتقد الملالي!
مشكلة النظام الايراني أنه يؤمن فقط بما يراه ويعتقده، ويريد فرض رؤيته الأمنية على الدول المجاورة، التي يتعامل معها وفق منظور استعلائي لا يعترف بحق هذه الدول في التصرف وفق ما تمليه عليها مصالحها الوطنية، والأغرب من ذلك أن المعايير ذاتها التي شخّص الملالي من خلالها مزاعم الوجود الاسرائيلي على الحدود الايرانية ـ بافتراض صحة ذلك ـ هي نفسها التي يتنكر لها النظام الايراني في إدارة العلاقات مع سوريا على سبيل المثال، حيث يسمح لميلشيات الحرس الثوري بالاقتراب من الحدود الاسرائيلية مستغلاً ضعف قبضة الدولة السورية على كامل أراضيها، ويتصرف وفق هذه الظروف الجيوبوليتكية التي أنتجتها الأزمة السورية، ناهيك عن دعمه العسكري والمادي لميلشيات "حزب الله" اللبناني وغيره من التنظيمات التي تعتبر ذراع عسكرية متقدمة قادرة على خوض حروب واشعال تهديدات بالوكالة لمصلحة الايرانيين!
الحقيقة أن اللامنطق الايراني لا يبرر تصرفات الملالي حيال جيرانهم الأذريين، وإلا فإن اللامنطق ذاته لو تم التسليم به فإنه يصبح من حق اسرائيل أن تحشد قواتها على حدود سوريا ولبنان وتقوم باجتياح حدود هاتين الدولتين العربيتين لمطارد ميلشيات تابعة لإيران التي يعلم الجميع قدر تهديدها للأمن الاسرائيلي. والمؤكد أنني لا ادعو هنا لتصرف اسرائيلي مماثل على حدودها مع سوريا ولبنان، فلسنا دعاة حروب ولا أبرر ولا أؤيد مثل هذه الانتهاكات التي تضرب بالقانون الدولي عرض الحائط، وتقوض ميثاق الأمم المتحدة وتنتهك مبادئها، ولكنني أشير فقط إلى حالة مشابهة توضح خطورة السلوك الإيراني وتداعياته المحتملة على الأمن والاستقرار الدوليين.
اعتاد نظام الملالي تطبيق نظرية الحرب بالوكالة والحروب عن بُعد ولكنه يشعر باستفزاز كبير في حال اقتراب ما يعتبره تهديداً عسكرياً من الحدود الايرانية، رغم ان التهديد هنا قد يكون غير قائم من الأساسا وليس له وجود، بل أحد مخرجات نظرية المؤامرة أو يراد به التغطية على أهداف ومخططات ايرانية أخرى.
لا يخفي على أحد من المراقبين حجم التوجس الايراني المعلن رسمياً من علاقات أذربيجان الوثيقة مع إسرائيل وتزويد تل أبيب لباكو بأسلحة حديثة بما في ذلك الطائرات المسيرة، ولكن غير المعلن في التصريحات الايرانية هو قلق أذربيجان من علاقات أذربيجان وتركيا، حيث قدمت أنقرة مساعدات كبيرة لأذربيجان في حرب قره باغ، كما روّجت لفكرة "دولتين - أمة واحدة"، وهذا الأمر يثير القلق لدى الملالي ولكنهم لا يريدون اثارة هذه الزاوية لأنهم ببساطة موجودون على حدود تركيا في سوريا!
القصة ببساطة أن الملالي لا يريدون أن يفكر أحد بنفس طريقتهم، ولا يرغبون في اللعب مع الآخر وفق قواعد اللعبة ذاتها التي يمارسونها اقليمياً، ويدركون تماماً أن السحر قد انقلب على الساحر، وأن ادعاءتهم بشأن وجودهم "القانوني" في سوريا يمكن أن تعادل موقف أي طرف آخر يقول أنه يتواجد في أذربيجان بدعوة رسمية من الحكومة الأذرية! كما يدرك الملالي حجم الأثر العملياتي لوجود طائرات مسيرة اسرائيلية وتركية لدى أذربيجان، حيث تقول تقارير موثوقة أن استخدام الطائرات الإسرائيلية المسيرة الهجومية والصواريخ ومضادات الدروع وغيرها من الأسلحة الإسرائيلية من قبل القوات الأذربيجانية خلال حرب قره باغ العام الماضي قد لعب دوراً كبيراً في حسم الحرب لمصلحة الجيش الأذري.
الحرس الثوري الايراني الذي أجرى مؤخراً مناورات على الحدود الأذرية وصفت بأنها أكبر تدريبات منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي اعتبره بعض المراقبين بمنزلة استعدادات إيرانية جادة لمواجهة تصعيد عسكري محتمل على الحدود مع أذربيجان يتحدث عن جاهزية للحرب، يسعى من خلال هذا التصعيد إلى الضغط على أذربيجان لثنيها عن التعاون مع اسرائيل، وبدرجة أقل تركيا، خشية أن تستخدم الأراضي الأذرية ضد إيران في أي مواجهة محتملة، وعلى قدر ضحالة هذا المبرر، لكنه يوفر لإسرائيل سبباً قوياً لاقناع المجتمع الدولي بحجم الاستفزازات الايرانية؛ فالملالي الذين يكررون ليل نهار أنهم لن يتسامحوا مع وجود اسرائيل في الجوار، يقدمون بالمقابل لإسرائيل هدية على طبق من ذهب بأن من حقها أيضاً عدم التسامح مع أي وجود عسكري إيراني في جوارها.