في خضم الشكوك والغموض الذي يكتنف مصير المحادثات الخاصة بإحياء الاتفاق النووي، والتي انعقدت ست جولات منها بين النظام الايراني وممثلي مجموعة "5+1" في فيينا، ثم دخلت نفق الجمود منذ الانتخابات الرئاسية التي جرت في إيران خلال شهر يونيو الماضي، أعرب مفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، عن تفاؤله إزاء امكانية استئناف المباحثات مع إيران "في المستقبل القريب"، واشار بوريل إلى أنه "أكثر تفاؤلا اليوم مما كان أمس".
أكثر مايلفت الانتباه في التطورات الخاصة بهذه المفاوضات أن استئنافها بات هو الخبر أو الحديث الرئيسي الذي تترقبه الدوائر السياسية الغربية؛ فلم يعد السؤال الأكثر إلحاحاً يتمحور حول نتائج هذه المحادثات واحتمالات التوصل إلى تفاهمات حول إحياء الاتفاق وعودة الولايات المتحدة وإيران إلى التزاماتها الواردة فيه، وبأي شروط، ومن الرابح والخاسر سياسياً في هذه التفاهمات، بل بات السؤال يتركز حول فرص واحتمالات انهاء الجمود الحاصل وعودة وفود التفاوض من الجانبين إلى فيينا!
الحقيقة أن الوضع الراهن يعكس نجاح التكتيك السياسي الايراني القائم على كسب الوقت والضغط على أعصاب الجانب الأمريكي لأقصى مدى، انطلاقاً من أن مرور الوقت بدون تحقيق أي تقدم يفاقم أزمة البيت الأبيض الذي لم يحقق نجاحات كبرى في السياسة الخارجية الأمريكية منذ تولي السلطة في يناير الماضي، وحيث كان يفترض أن يكون إحياء هذا الاتفاق في صدارة أولويات فريق الرئيس بايدن، ولكن ماحدث جاء على عكس التوقعات حيث أخفقت جولات التفاوض الست في انهاء حالة التأزم، ومازاد الطين بلة أن المفاوض الأمريكي بات في مواجهة فريق من المتشددين الايرانيين يتولون شؤون هذه المفاوضات!
الواقع يقول أن الوسطاء الأوروبيين يركزون جهودهم في المرحلة الراهنة على اقناع الايرانيين باستئناف التفاوض، وفي مؤتمره الصحفي الأسبوعي، قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة: "المشاورات مع مفاوض الاتحاد الأوروبي المكلف بملف طهران النووي، الإسباني إنريكي مورا، كانت بناءة، واتفقنا على استئنافها في بروكسل"، مشيرا إلى أنه "يجب مناقشة العراقيل التي منعت مفاوضات فيينا من الوصول الى نتيجة في الجولات السابقة".
ملالي إيران يركزون بوضوح على كسب الوقت من خلال تحركات لا تقدم ولا تؤخر ولكنها ربما تنفي عنهم أي اتهام محتمل برفض التفاوض، وفي هذا الإطار نجدهم قد ابتكروا صيغ جديدة مثل التشاور من أجل التعرف على أسباب فشل الجولات الست السابقة من المفاوضات في التوصل إلى اتفاق، بدعوى أن الملالي لا يريدون "تضييع الوقت في المفاوضات"، وأن توضيح بعض النقاط سيسهم في تفادي ذلك، وهي ادعاءات واضحة لكسب الوقت وتعزيز الموقف التفاوضي الايراني من خلال تعميق حالة التأزم والحرج التي يعانيها الجانب الأمريكي ومن ثم محاولة انتزاع أقصى تنازلات ممكن في أي جولة تفاوضية قادمة!
بالتأكيد هذه التكتيكات ليست خافية على الساسة الأمريكية، ولكن المعضلة تكمن في كيفية وقف هذه المراوغات الايرانية، وهنا يمكن الاشارة إلى تصريح أدلى به وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن في مارس الماضي، وقال فيه إن "أفضل طريقة للتعامل مع إيارن هي اعتماد الدبلوماسية الصارمة"، وهذا كلام دقيق يعرفه كل مراقب للشأن الايراني، وهو يعكس خبرة إدارة الرئيس بايدن بسيكولوجية التفاوض الايرانية، ولكن تبقى المعضلة في امتلاك الارادة والحزم اللازمين لتطبيق هذه الخبرة! والحقيقة أن الموقف الوحيد الذي أظهر فيه بلينكن هذه الدبلوماسية الصارمة قد تمثل في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع وزير الخارجية الاسرائيلي يائير لبيد خلال زيارة الأخير لواشنطن مؤخراً، حيث قال بلينكن إن الولايات المتحدة تعتبر أن "الحل الدبلوماسي هو السبيل الأفضل" لتجنّب حيازة إيران على السلاح النووي، لكنّه أشار بحزم أكبر من السابق إلى قرب نفاد صبره في ظل التعليق المستمر منذ يونيو للمفاوضات الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي، وقال بلينكن: إن "الحوار يتطلّب طرفين ولم نلمس في هذه المرحلة نية لدى إيران للانخراط في الحوار، وهو ذكّر بأن الهامش المتاح آخذ بالانحسار"، وفي رد على تلويح نظيره الإسرائيلي يائير لبيد باستخدام القوة ضد طهران، قال بلينكن باقتضاب "نحن جاهزون للجوء إلى خيارات أخرى إن لم تغيّر إيران مسارها"، ورغم أن بلينكن قد آثر عدم التلويح بالقوة العسكرية بشكل مباشر وحصر الحديث عن "خيارات أخرى"، فإن الوزير الاسرائيلي لم يترك العنان للتحليل والتوقعات وقال معقباً "أظن أن العالم بأسره يفهم ماهية الخيارات الأخرى".
المحصلة إذن أن تفاؤل الجانب الأوروبي بقرب انفراج أزمة استئناف المفاوضات النووية مع إيران قد لا يعني الكثير بالنسبة لأطراف تنظر بقلق شديد إلى مناورات الملالي ومراوغاتهم السياسية، وفي مقدمة هؤلاء تأتي اسرائيل، التي تخشى نفاذ الوقت وافلات الملالي بقدرات نووية من شأنها أن تخلط الأوراق وتعيد تشكيل التحالفات وتقلب موازين القوى الاقليمية وربما الدولية أيضاً.