في الوقت الذي تشارك فيه إيران في مفاوضات فيينا بحثاً عن مخرج لإحياء الإتفاق النووي الموقع بينها وبين القوى الدولية الست (5+1) عام 2015، وتجري محادثات مع بعض جيرانها لتهدئة التوترات الإقليمية، يقوم النظام الإيراني باستعراض قوة عسكري لافت قام بعرضه على العالم نهاية الشهر الماضي، أي قبل وقت قصير من نقاشات الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول أنشطة إيران النووية، حيث لجأ النظام إلى إبراز قوته في مجال الطائرات من دون طيار، التي تشكل بالفعل تهديداً لا يستهان به للدول الإقليمية، فضلاً عن أنها باتت تمثل خطراً يهدد الولايات المتحدة نفسها، وقد أعترف بذلك الجنرال كينيث ماكنزي قائد القيادة المركزية الأمريكية في شهادة له أمام الكونجرس العام الماضي، معتبراً أن التفوق الجوي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط قد تراجع للمرة الأولى منذ عقود.
ما نسمع به في الفترة الراهنة من تقارير إيرانية تتحدث عن قواعد ضخمة سرية للطائرات من دون طيار ومدن صواريخ تابعة للحرس الثوري الإيراني، يكشف عن الجانب الأهم الذي يضاعف الخطر الناجم عن برنامج إيران النووي، لأن السؤال البديهي الذي يطرحه المراقب يتمحور حول مغزى هذا التلازم اللافت بين تطوير القدرات النووية حتى بلوغ مرحلة التسلح وبناء "القنبلة"، وبين تطوير صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية، ولماذا هذا الإنفاق الهائل على بناء هياكل سرية تحت الأرض لتخزين صواريخ وطائرات مسيرة وإطلاقها، خصوصاً أن مناطق التخزين لا تشمل قواعد عسكرية قريبة من الخليج العربي واسرائيل فقط (قاعدة خرم آباد التي تبعد عن اسرائيل نحو 1400 كم)، بل تشمل كذلك قواعد مثل تبريز (شمال غرب البلاد) التي تجعل أجزاء جغرافية واسعة من شرق أوروبا ووسطها في نطاق الاستهداف العملياتي للصواريخ الإيرانية.
اللافت أيضاً أن هناك تركيز إيراني واضح على توسيع قدرات قاعدة الإمام علي القريبة من "خرم آباد"، وهي قاعدة عسكرية تقع غرب إيران، أسفل قاعدة "تبريز"، وأقرب جغرافياً لإسرائيل، على بعد حوالي 1400 كم، وهو مدى يقع في نطاق عمل الصواريخ الباليستية الإيرانية، وتعمل تحت إمرة الحرس الثوري، الذي يقوم بتخزين صواريخ "شهاب 3" في هذه القاعدة.
خطر الفكر الإيراني لا يكمن فقط في رهانه الأوحد والمطلق على "عسكرة" قدرات البلاد وتحويلها إلى ترسانات ضخمة من الأسلحة، حيث يشبه هنا النموذج الكوري الشمالي، ولكن لأنه يضع كل هذه المنظومات التسليحية في خدمة مشروعه التوسعي، أي في متناول يد الميلشيات الموالية له في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وهنا تبدو إيران في وضع أخطر من كوريا الشمالية، وتتجاوزها من حيث توسيع نطاق الخطر ليشمل نطاقات جغرافية أوسع من حدوده، ويطال تهديد الأمن والاستقرار بشكل مباشر في دول عدة.
المعضلة الأكبر أن الأمن يهيمن على فكر وسلوك النظام الإيراني، والمسألة هنا لا تتعلق بالضغوط والعقوبات وما تردده طهران في هذا الشأن، بل تنحصر بالأساس في توجيه موارد هذا البلد الكبير إلى بناء مدن الصواريخ وعسكرة الدولة وجعلها في حالة إستنفار بكل انعكاسات ذلك السلبية على حياة الشعب الإيراني، الذي يكتم طاقة غضب كامنة، تمثل المحرك الأكبر والاهم لإنعدام الأمن لدى النظام الإيراني.
يدرك أي مراقب أن استعراضات القوة الإيرانية التي لا تتوقف سواء من خلال المناورات والتدريبات، أو إطلاق الصواريخ أو عرض فيديوهات لقواعد سرية تضم أسراب من الطائرات المسيرّة التي تتفاوت في قدراتها وأهدافها، كل هذه الخطط تستهدف ردع من تعتبرهم خصومها عن إستهدافها، او حتى محاولة التفكير جدياً في ذلك، ولكن الواقع يقول أن الأمر لا يقتصر على الردع، حيث شاهدنا جميعاً كيف أن المسيرّات والصواريخ الإيرانية استهدفت منشآت نفطية حيوية في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وكيف توجه الصواريخ الإيرانية ضربات قوية ودقيقة للقواعد العسكرية الأمريكية في العراق، ما يعني أن المسألة لا تتعلق بالردع العسكري، بل تمثل تهديداً فعلياً للأمن والاستقرار الإقليمي، لاسيما أن إيران تستثمر غالبية مواردها الطاقوية في تطوير قدراتها التسليحية. ونعرف جميعاً أن النظام الإيراني غالباً ما يتصرف بشكل ينطوي على تهور واضح ومجازفة كبيرة حين يستشعر إحساسا بالخطر، أو حين يرغب في إبتزاز الدول المجاورة والضغط عليها لتحقيق أهداف معينة، وهذا هو السيناريو الأخطر الذي ارتبط بسلوكيات النظام الإيراني طيلة السنوات الماضية.
في الآونة الأخيرة، برزت مؤشرات على نفاذ صبر الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من المراوغات الإيرانية في فيينا، وانعكس الأمر في قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي ينطوي على توجيه نقد ولوم لإيران بسبب عدم تعاونها مع الوكالة، ورغم لهجة القرار التي تمسك بالعصا من المنتصف ولا تدين إيران بشكل واضح ومباشر، فإن تمرير القرار بأغلبية ساحقة، يغضب طهران بكل تأكيد ويعكس فشلها في إقناع المجتمع الدولي بسلامة موقفها وسلوكها "النووي"، وبدلاً من أن تعالج أخطائها وتحاول إعادة النظر في سلامة موقفها وتقديم تفسيرا مقنعاً للأنشطة التي تثير شكوك مفتشي الوكالة والخاصة بوجود جزئيات اليورانيوم، التي تدعي طهران أنها "زُرعت في عمل تخريبي" (!)، لجأت كعادتها للتصعيد ولغة التهديد، وقامت بإغلاق كاميرات المراقبة التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووضع خطط لرفع مستوى تخصيب اليورانيوم، فيما وصفه رافائيل غروسي، مدير عام الوكالة الدولية، بأنه قد يشكل "ضربة قاضية" لجهود إحياء الإتفاق النووي.
الواقع يقول أن منطقتنا قد تكون على موعد مع تصعيد جديد للتوترات في حال استمر النهج الإيراني في التعاطي مع أسباب هذه التوترات، سواء ما يتعلق منها بالتدخلات الإقليمية أو بالملف النووي. وبناء على الإرث السيئ لهذا النظام، يتُوقع ان يلجأ إلى إفتعال أزمات أو تصعيد جديد للأوضاع لاسيما انه يدرك مدى حساسية الغرب تحديداً لأي توتر جديد في منطقة الخليج في ظل الظروف الدولية الراهنة، وماقد يسببه ذلك من إرتفاع لأسعار النفط.