من المعروف أن الإتفاق النووي المعروف بـ"خطة العمل المشتركة الشاملة"، والذي وقعته مجموعة "5+1" مع إيران في عام 2015، قد جاء بعد نحو عقد كامل من المفاوضات المتقطعة التي كانت قد بدأت عام 2006، ويبدو أن مفاوضات إحياء هذا الإتفاق الذي دخل في غيبوبة سريرية أو حالة موت أكلينيكي منذ إنسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب منه عام 2018، تمر بنفس التجارب والظروف التي مر بها الاتفاق الأصلي!
السبب الأساسي في إطالة أمد المفاوضات في الحالتين يكمن في قدرة الجانب الإيراني على خوض جولات تفاوض ماراثونية وفق سياسة النفس الطويل أو ما يسميه المراقبين الغربيين بإستراتيجية "حائك السجاد" الايراني، المتمرس على العمل لفترات طويلة من دون ملل، ويبدو أن الولايات المتحدة وشركائها الغربيين لم يستوعبوا درس 2015 جيداً، رغم أن غالبية الفريق التفاوضي الأمريكي قد شارك في المفاوضات السابقة، ويمتلك خبرة ومعرفة عميقة بالنهج المتبع وسيكولوجية المفاوضين الإيرانيين بشكل عام.
الحاصل الآن أنه بعد نحو عشر جولات تفاوضية عقدت في العاصمة النمساوية، فيينا، لم يتم التوصل إلى صيغة إتفاق نهائية، وفوجىء العالم بجولة جديدة في الدوحة، وسط توقعات بأن تشهد تفاهماً حول النقاط الخلافية التي يكثر الحديث عنها إعلامياً، ولكن باءت جولة الدوحة بالفشل ولحقت بسابقاتها رغم أن طهران وصفتها بالايجابية، وهذا بحد ذاته يعكس رؤية الإيرانيين للمسألة التفاوضية، بمعنى أن انعقادها بحد ذاته هو الهدف والانجاز!
في ختام مفاوضات 2015، استطاعت إيران حشر الرئيس الأسبق باراك أوباما في زاوية زمنية حرجة، بحيث لم يكن أمامه سوى القبول بأي صيغة بغض النظر عن كلفتها الإستراتيجية الكارثية ليس على مصالح بلاده فقط، بل على حلفائها الخليجيين والشرق أوسطيين مثل إسرائيل كذلك. ويبدو أن إيران تمضي في إستدراج الرئيس الحالي جو بايدن إلى السيناريو ذاته، فالوقت يمضي، ومرور الأشهر والسنوات في التفاوض يعني أن أقدام بايدن تغرس أكثر فأكثر في رمال الملف النووي الإيراني المتحركة، ومع ضيق الوقت تلوح لإيران فرص انتزاع تنازلات كبرى من البيت الأبيض.
من المهم هنا الاشارة إلى أن طرح الشروط التعجيزية يمثل أحد مفاصل إستراتيجية كسب الوقت الإيرانية، وهنا نتذكر المطلب الخاص برفع اسم الحرس الثوري الإيراني من قوائم الإرهاب الأمريكية، وهو مطلب تدرك طهران مسبقاً صعوبة تحققه، وتعرف جيداً ما يحيط بالمطلب من تعقيدات تجعل تنفيذه أقرب إلى إنتحار سياسي للرئيس الأمريكي، لذا فإن طرح الأمر لا يستهدف سوى تعظيم الضغوط التفاوضية وكسب الوقت تمهيداً للفوز بمكاسب إستراتيجية أخرى تطرحها على مائدة التفاوض كتعويض عن عدم تحقق مطلبها الأثير الخاص بالحرس الثوري الذي يهيمن على مفاصل السلطة في البلاد.
يساعد طهران في الظروف الدولية الراهنة، أنها تدرك جيداً مدى حاجة الدول الأوروبية للنفط والغاز الايراني لخفض أسعار الطاقة وتنفيذ خطط الإستغناء عن الغاز الروسي، وهو مايفسر الزيارات المتكررة والجهود الكبيرة التي يبذلها انريكي مورا المنسق الأوروبي للمفاوضات النووية مع إيران، من أجل حلحلة الوضع التفاوضي، والبحث عن مخارج للجمود الراهن. لذا فإن طهران تحاول بشتى الطرق التمترس وراء مطلبها الحقيقي، وليس التمويه، والخاص بالحصول على تعهدات أمريكية مكتوبة بعدم الإنسحاب لاحقاً من أي اتفاق نووي يتم التوصل إليه، وهذا أمر صعب التحقق للغاية في ظل آليات النظام السياسي الأمريكي.
بلا شك أن زيارة الرئيس بايدن المرتقبة للشرق الأوسط، والتي ستشمل كل من المملكة العربية السعودية واسرائيل، يمكن أن تسهم في السيطرة جزئياً على المناورات التفاوضية الإيرانية، فلاشك أن طهران تترقب نتائج هذه الزيارة بشكل دقيق، حيث يتوقع أن تكشف الزيارة ـ ولو قليلاً ـ عن نوايا واشنطن تجاه الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة، بمعنى أن التأكيد على محورية الدور الأمريكي في المنطقة وإعادة ترتيب الأوراق إقليميًا مع الحليف الأمريكي، كل ذلك يمكن أن يشكل عنصر ضغط على إيران، التي تسعى جاهدة لحصد ثمار تمددها الإستراتيجي إقليميًا وترجمة النفوذ الميليشياوي الذي رسخته في مناطق ودول عدة بالمنطقة إلى مكاسب إستراتيجية ونفوذ إقليمي معترف به دولياً.
إذا كانت إيران تلجأ إلى إطالة أمد مفاوضات إحياء الإتفاق النووي، فإن اطمئنانها لعدم وجود الخيار العسكري ضمن البدائل الإستراتيجية التي يناقشها صانع القرار الأمريكي، يمثل أحد أصعب العقبات التي لن تزول سوى بزوال السبب، أو باستشعار طهران أن نفاد صبر إدارة الرئيس بايدن وإنسحابها من المفاوضات ـ وهو إحتمال بعيد ولكنه وارد بدرجة ما ـ سيكلفها الكثير.