شغلت عملية اعتقال رئيس شركة "تيليغرام" بافيل دوروف، في فرنسا الأوساط السياسية والإعلامية عالمياً واثارت الكثير من التساؤلات والتكهنات حول دوافعها وأسبابها الحقيقية، والأهم من ذلك دلالاتها في إطار معايير حرية التعبير والديمقراطية التي يحرص الغرب على أن يبعث للعالم برسائل مفادها أنه الحارس الوحيد لبوابة هذه المعايير والأمين الأوحد على تنفيذها!
بغض النظر عن الاتهامات التي وجهت لدوروف، الذي يحمل جنسيات الإمارات وفرنسا وروسيا، وهي اتهامات تتلخص في نقص المشرفين على التطبيق الشهير، وأن هذا الوضع ـ كما ترى الشرطة الفرنسية ـ يسمح لأنشطة إجرامية بالاستمرار على التطبيق دون رادع.
القصة أن هيئة مكافحة العنف ضد القاصرين في فرنسا أصدرت مذكرة اعتقال بحق دوروف للتحقيق الأولى في جرائم مزعومة تشمل الاحتيال والاتجار بالمخدرات والتنمر الالكتروني والجريمة المنظمة والترويج للإرهاب وأن رئيس "تيليغرام" فشل في اتخاذ إجراءات للحد من الاستخدام الإجرامي لمنصته، بمعنى أن كل ما تراه السلطات خروقات على المنصة تم تحميل مسؤوليته لرئيسها ومن ثم المطالبة بالتحقيق معه في هذه الجرائم المزعومة.
شركة تيليغرام دافعت منذ اللحظة الأولى عن رئيسها مؤكدة أنه "من السخافة القول بأن منصة أو مالكها مسؤول عن اساءة استخدامها"، وهذا أمر منطقي إلى حد كبير، وإلا فما جدوى كل هذه التشريعات القانونية المستحدثة في كثير من الدول لوضع حدود لاستخدام منصات التواصل الاجتماعي بما يتوافق مع المبادىء والقيم والقوانين السائدة في كل دولة على حدة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي الذي يطبق قوانين تهدف إلى ضمان بيئة آمن ويخضع الممارسات على هذه المنصات للمساءلة القانونية في حال حدوث تجاوزات أو انتهاكات لهذه القوانين.
توفير الحماية القانونية لمؤسس "تيليغرام" كان مسؤولية أساسية على عاتق دولة الإمارات التي يحمل جنسيتها بجانب جنسيته الروسية، بالنظر إلى أن السلطات الفرنسية لم تستجب لمطالبة نظيرتها الروسية بضمان توفير الحقوق القانوية لدروف، بسبب تدهور العلاقات مع موسكو على خلفية حرب أوكرانيا، فلعبت دولة الإمارات الدور الأبرز في هذا الإطار لحماية أحد رعاياها علماً بأن هذا هو عهد السلطات الإماراتية مع مواطنيها كافة، والجميع يعرف ذلك والأمر هنا لا يتطلب المزيد من الاثبات والاستفاضة في ذكر وقائع مماثلة، لأن أحد ركائز المواطنة الإماراتية تقوم على الاهتمام بالمواطن في داخل البلاد وخارجها من دون تفرقة أو تمييز فالكل مواطنون يحملون وثاق هوية إماراتية تعطي لهم حقوقاً لا تبخل الدولة مطلقاً في توفيرها مهما كانت الظروف.
ما يشغلني هنا ليست الاتهامات المزعومة التي يواجهها درورف ولكن ما وراء هذه الاتهامات وما تعكسه من أبعاد ودلالات، لاسيما أننا بصدد أحد أكبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، ويحظى بانتشار هائل في دول مثل روسيا وأوكرانيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق، وسبق له ان تعرض لضغوط كبيرة منها في روسيا نفسها، حين رفض تسليم بيانات المستخدمين وتعرض التطبيق للحظر في عام 2018 وتم الغائه بعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام، حتى أصبح التطبيق أحد أهم مصادر تداول أخبار الحرب الروسية ـ الأوكرانية، حتى أن بعض المحللين الروس اعتبروا أن القبض على دوروف محاول للوصول إلى البيانات الخاصة بالقادة والمسؤولين الروس واختراق حساباتهم وربما السيطرة على منصة "تيليغرام" بأكلمها.
تضييق الخناق على منصات التواصل الاجتماعي الشهيرة بات من الممارسات المتعارف عليها غربياً، ولها غطاء قانوني يلزم شركات التكنولوجيا بإزالة أي محتوي يخالف قوانين هذه الدول، وهذه القيود المتزايد لا تتعلق بتيليغرام فقط بل تشمل جميع منصات التواصل، في إطار مايعرف بالرقابة الليبرالية، وهو مفهومان متعارضان، ولكن يتم الترويج لذلك بطرق مختلفة، والأهم الضغط على مؤسسي وأصحاب هذه المنصات وملاحقتهما بالطرق القانونية في إطار تنسيق متكامل للجم سيطرة هذه المنصات على الفضاء العام للحريات.
المسألة لها أبعاد وجوانب مختلف وتعكس صراع مصالح محتدم بين الاقتصاد والتجارة والسياسة، وله ارتباطات أمنية وعسكرية واستخباراتية تتفاعل جميعها على قاعدة السيطرة على المعلومات في ظل صراع وتنافس اقليمي ودولي محتدم يتمحور حول إعادة تشكل النظام العالمي وترسيم حدود القوى الاقليمية والدولية وأدوارها في المرحلة المقبلة، وهو مايفسر قلق الإعلام الرسمي الروسي من احتجاز دوروف في فرنسا خشية أن تحصل أجهزة الاستخبارات على مفاتيح التشفير الخاصة بمنصة تيليغرام، حتى أن صحيفة موسكوفسكي كومسوموليتس ذكرت أن "تيليغرام قد يصبح أداة في أيدي حلف شمال الأطلسي، إذا أُجبر بافل دوروف على الانصياع لأجهزة المخابرات الفرنسية"، مشيرة إلى أن محادثات "تيلغرام" تحتوي على كمية هائلة من المعلومات الاستراتيجية ذات الأهمية الحيوية، وهو مايمكن فهمه في إطار استخدام المنصة بشكل واسع بين قادة الجيش الروسي، بل أعربت الصحيفة عن مخاوف من تأثير أي تعطل للتطبيق على عمليات الجيش الروسي في أوكرانيا، حيث يفهم من ذلك أن التطبيق هو وسيلة التواصل الأساسية بين القوات هناك.
في المجمل باتت فكرة حرية منصات السوشال ميديا تؤرق الدول والحكومات، والأمر لا يتعلق فقط بالمعلومات، بال بالسيطرة على المعارضين وفرض الرقابة وهو أمر مطروح للنقاش حتى في الداخل الأمريكي حيث اعترف مارك زوكربيرغ (فيسبوك) بـ"ندمه وأسف الشديدين"بسبب ماوصفه باستسلامه للضغوط التي مارستها عليه إدارة بايدن للرقابة على المواطنين الأمريكيين المعارضين، ونفس الشىء تعرض له ايلون ماسك (منصة اكس).
البعض يقول إن التطور المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي تحتم مسألة الرقابة في ظل حساسية المعلومات في حسابات الصراع الدولي، بحيث لم يعد "حياد" المنصات لحسابات تجارية أو مبادئية مقبولاً، وباتت القاعدة إما معنا أو ضدنا، وهذا هو جوهر المسألة وكل ما يرتبط بها من ممارسات وأحداث.