الحديث عن إنهاء الحرب في أوكرانيا لا يزال بعيداً في الظاهر، ولكن هذا الأمر تتكشف أبعاده تدريجياً، ويتضح للمراقب أن المسألة لا تتعلق بتعنت روسي ولا تشدد أوكراني كما يعتقد البعض، فهناك طرف ثالث يريد لهذه الحرب أن تحقق أهدافها، التي هي بعيدة عن الشعارات التي تتردد في البيانات الصادرة عن القمم والإجتماعات التي يعقدها القادة والمسؤولين الغربيين.
من بين الإشارات التي أثارت إهتمامي خلال متابعتي للأحداث، مقال نشره الكاتب الأمريكي تيد سنايدر في موقع "ذي أمريكان كونسرفاتيف" أشار فيه إلى ثلاث محاولات منفصلة للمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، قدّم فيها الطرفان تنازلات معقولة واقتربت إحداها (في إسطنبول) إلى حد التوقيع على تسوية سلمية بين الطرفين المتصارعين، إلا أن الولايات المتحدة أوقفت المفاوضات الثلاث.
الجولات التفاوضية الثلاث التي أشار إليها الكاتب بدأت أولاها، بحسب الكاتب، في الخامس والعشرين من فبراير 2022، أي بعد نحو 4 أيام فقط من بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، وأعرب فيها الرئيس فلاديمير زيلينسكي عن إستعداده للتخلي عن مسعى بلاده للحصول على عضوية "الناتو"، وأعلن كذلك أنه لا يخشى التفاوض بشأن الحياد والضمانات الأمنية مع موسكو. كان هذا التنازل بمثابة العلامة الأولى على أن كل من أهداف روسيا وأوكرانيا قد تتحقق، وأن الحرب يمكن أن تنتهي بتسوية دبلوماسية. وصرح زيلينسكي حينها: "لسنا خائفين من التحدث على روسيا. لا نخشى أن نقول كل شيء عن الضمانات الأمنية لدولتنا. لا نخشى الحديث عن الوضع المحايد. نحن لسنا في الناتو الآن.. نحتاج للحديث عن نهاية هذا الغزو. نحن بحاجة للحديث عن وقف لإطلاق النار، فيما قال مستشاره ميخائيل بودولياك: "إن أوكرانيا تريد السلام ومستعدة للمحادثات مع روسيا، بما في ذلك حول الوضع المحايد فيما يتعلق بحلف الناتو". ويقول الكاتب إنه على الرغم من أن أوكرانيا كانت على إستعداد لمناقشة الحياد و"إنهاء العمليات العسكرية"، فإن الولايات المتحدة لم تكن على استعداد لذلك.
الجولة الثانية جاءت من خلال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت، الذي أجرى محادثات ماراثونية سريعة مع جميع الأطراف بضوء أخضر من الرئيس بوتين، الذي قال له "بإمكاننا التوصل إلى وقف لإطلاق النار"، لكن الولايات المتحدة والغرب عرقلوا فرص الحل مرة أخرى، بعد أن قدم بوتين "تنازلات ضخمة" بحسب بينيت، منها التخلي عن مطالبة روسيا بـ "نزع سلاح أوكرانيا"، فيما تخلى زيلينسكي عن فكرة الإنضمام إلى الناتو.
الجولة الثالثة اللافتة التي كشف عنها الكاتب الأمريكي كانت في أسطنبول في أبريل 2022، ونتج عنها بالفعل تسوية "متفق عليها مبدئيا"، وقدم زيلينسكي وعدا بعدم الإنضمام إلى "الناتو"، وقد كشف بوتين مؤخرا عن مزيد من التفاصيل حول مشروع إتفاق اسطنبول حيث قال: "لقد توصلنا إلى إتفاق في إسطنبول"، وأكد بأن الإتفاق المبدئي لم يكن مجرد إتفاق شفهي، وإنما أصدرت وثيقة موقعة من الجانبين.وعندما سئل المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكي نيد برايس عما إذا كان زيلينسكي "منفتح على حل دبلوماسي" أجاب: "إن هذه الحرب التي هي أكبر من روسيا من نواح كثيرة، هي أكبر من أوكرانيا أيضا".
لو صح نصف معلومات هذا المقال المهم للغاية، فإن العالم بات في مواجهة حقيقية سخيفة يمكن أن تحدث تحولاً في وجهات نظر الشعوب على الأقل، حيث أن قناعاتي ـ كباحث ـ أن المواقف المحايدة التي تبنتها العديد من دول العالم، ليست بمنأى عن إدراك ما يحدث وراء الكواليس وأن ثمة موقف غربي، أمريكي تحديداً، يتمسك بشدة بفكرة هزيمة روسيا استراتيجياً!
الواقع أن الغرب ربما يجد نفسه في ورطة الآن بشأن كيفية الخروج من هذه الأزمة، لاسيما أن الإنتخابات الرئاسية الأمريكية باتت على الأبواب، وأن إحتمالات وقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا باتت واردة بدرجة كبيرة، في ظل حالة عدم اليقين بشأن فرص الرئيس بايدن في الفوز بولاية رئاسية ثانية. الإرتباك الغربي تعكسه بعض النقاشات وربما التسريبات المتعمدة، ومنها تصريح ستيان جنسن كبير موظفي الأمين العام لحلف الناتو، التي قال فيها إن أوكرانيا يمكن أن تتخلى عن جزء من أراضيها مقابل عضوية الحلف وانهاء الحرب، وهو التصريح الذي اعتذر عنه لاحقاً.
الفكرة هنا أن أوكرانيا تجد نفسها في موقف إستراتيجي صعب للغاية، حيث كان ثمن وقف الحرب في البداية عبارة عن تعهد بعدم طلب عضوية الناتو والاكتفاء بالحصول على ضمانات أمنية، ولكن الوضع تغير الآن حيث بات الثمن المقبول من روسيا هو الاحتفاظ بكل أو جزء من الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها خلال العملية العسكرية!
لم تعد فكرة تعديل موازين القوى على الأرض عبر الهجوم الأوكراني المضاد قابلة للتحقق إلى حد كبير، وهناك تشكك روسي في أن فكرة مقايضة الأراضي بالانضمام للناتو لم تكن مجرد خطأ عابر، بل هي بالون إختبار لبدء رحلة المساومة التفاوضية مع روسيا، من خلال البحث عن مخرج يحفظ ماء وجه الجميع، وباعتقادي فإن هناك أوراق مهمة بيد الغرب لمساومة روسيا، ومنها ورقة رفع العقوبات، وهي ورقة لا يجب الاستهانة بها، بل إنها وضعت لهكذا غرض على الأرجح.
معضلة الغرب الآن انه لا يريد أن يضع أحدث أسلحته بيد الجيش الأوكراني خشية وقوعها بيد روسيا والتعرف على أسرارها التكنولوجية، ولكنه بات أيضاً في مواجهة حقيقية ميدانية تتعلق بعدم قدرة الجيش الأوكراني على التقدم وتحقيق أي انتصارات عسكرية ولو تكتيكياً، لاسيما أن المساعدات العسكرية الغربية لم تعد تأت بشكل نوعي يسهم في تعزيز القدرات القتالية الأوكرانية، فمقاتلات "إف ـ 16" الأمريكية على سبيل المثال لن تسلم قبل عام 2024، وهكذا أصبح الدعم الأمريكي المعلن عبارة عن محاولة للحفاظ على وتيرة القتال الأوكرانية ولو من دون تقدم لغرض كسب الوقت بحثاً عن مخرج ملائم من هذا الوضع المعقد.
السؤال الآن هل يخرج الغرب من هذه الحرب خالي الوفاض؟ الجواب هو لا قطعياً، فالغرب حقق الكثير على صعيد عزل روسيا دولياً وانهاكها اقتصادياً، وذلك في إطار أضعاف قدرتها على بناء تحالف مع الصين في إطار التنافس الشرس على قيادة العالم، فالصراع هو إستراتيجي بامتياز، وأحد مظاهره ما يدور أوكرانيا، وهذا يفسر ما بدأنا به المقال بشأن إفشال الجولات التفاوضية الثلاث، فقد ضمنت الولايات المتحدة ولاء أوروبا لها بإشعال العداء مع موسكو، كما تم إبعاد روسيا بشكل كبير عن دائرة صنع القرار العالمي، وتراجع تأثيرها في أسواق الطاقة العالمية بسحب أسواق التوريد الأوروبية منها!.