تشهد الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا تطورات إستراتيجية مهمة ومتسارعة للغاية، والأخطر في ذلك أنه ينطوي على مؤشرات تصعيد عسكري تتراجع فيها حسابات الحذر الإستراتيجي ولاسيما من الجانب الغربي، والتي حكمت مسيرة هذه الحرب ـ صعوداً وهبوطاً ـ منذ اندلاعها قبل أكثر من عام.
من بين هذه التطورات هناك موقف الولايات المتحدة التي قالت إنها ستدعم تزويد أوكرانيا بطائرات مقاتلة متطورة بما في ذلك طائرات إف-16 أمريكية الصنع، وستدعم أيضا تدريب الطيارين الأوكرانيين على قيادتها، وقال مسؤول كبير في البيت الأبيض إن الرئيس جو بايدن أبلغ قادة مجموعة السبع في اليابان بالقرار، الذي يعني أن بإمكان الدول الأخرى التي تمتلك طائرات إف-16، تزويد أوكرانيا بها.
أهمية هذا القرار الأمريكي تنطلق من كون هذه المقاتلات ذات قدرات هجومية مرتبطة بمعركة الجو التي تعد أحد أهم العوامل الفارقة في الصراع بين أوكرانيا وروسيا، حيث فشل أي من الطرفين في حسم هذه المعركة لمصلحته منذ بداية الصراع، حيث كان التركيز ينصب على دعم اوكرانيا بقدرات عسكرية أرضية بالأساس، بالإضافة إلى قدرات صاروخية محدودة، وربما جوية غير متطورة وذات قدرات دفاعية بالأساس، وهو مايفسر تصريحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي التي رحب فيها بما وصفه بـ"القرار التاريخي".
معركة الجو التي فشلت في حسمها روسيا في ظل تنوع وتعدد موارد الدفاعات الجوية والأرضية الاوكرانية المكثفة، قد يطرأ عليها تغيير نوعي فارق في ظل تغيير السياسة الأمريكية، التي ستبقى نتائجها على الأرض مرهونة بالحصول على مقاتلات "إف ـ16" فعلياً فضلاً عن تدريب الطيارين الأوكرانيين عليها، وهي مسألة يمكن أن تستغرق أربعة أشهر على أقل التقديرات في حال توافر الطيارين ذوي الخبرة على طرازات أخرى من المقاتلات.
هناك قائمة واسعة من الدول الأوروبية التي تمتلك مقاتلات "إف ـ16" الأمريكية، ولكن لا يتوقع أن توافق جميعها على التخلي عن جزء من قدراتها الجوية لمصلحة أوكرانيا في هذه الظروف تحديداً، وهنا يمكن الإشارة إلى "تغريدة" رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك التي قال فيها "ستعمل المملكة المتحدة مع الولايات المتحدة وهولندا وبلجيكا والدنمارك لتزويد أوكرانيا بالقدرة الجوية القتالية التي تحتاجها"، علماً بأن بلاده لا تمتلك أي مقاتلات من الطراز الأمريكي، وبالتالي لا تزال هناك علامات استفهام حول الدول الأطلسية التي يمكنها إرسال بعض مقاتلات "إف ـ16" لأوكرانيا في إطار ماسبق أن أسماه سوناك ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته بـ التحالف الدولي" لدعم أوكرانيا بالمقاتلات، ولاسيما أن دولاً أوروبية مهمة مثل فرنسا أكدت فقط على امكانية المساعدة في تدريب الطيارين دون تقديم طائرات.
إرسال مقاتلات متطورة إلى أوكرانيا يصعب ألا يفهم من جانب روسيا باعتباره تصعيداً للحرب، ومقامرة أطلسية تستهدف التعجيل بهزيمة الجيش الروسي، لأن المقاتلات الحديثة مثل إف-16 ستساعد أوكرانيا على توجيه ضربات مؤثرة خلف خطوط الامداد الروسية. وما يعزز هذا الإعتقاد لدى روسيا أن هناك خطوات غربية موازية منها أن المملكة المتحدة باتت تزود أوكرانيا بصواريخ "ستورم شادو" وهو من صواريخ كروز، التي يبلغ مداها أكثر من 250 كيلومترا، وهي ذات قدرات تفوق الصواريخ الأمريكية التي أرسلت إلى أوكرانيا من قبل من طراز "هيمارس"، ويبلغ مداها نحو 80 كيلومتراً فقط. وهنا يمكن الإشارة إلى تصريحات أدلى بها وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف قبل أشهر، وقال فيها إن "أوكرانيا مستعدة لتقديم أي ضمانات بأن أسلحتكم لن تشارك في هجمات على الأراضي الروسية"، بينما رد الكرملين قائلاً إن موسكو ستتخذ رداً عسكرياً "ملائماً" إذا استخدمت القوات الأوكرانية أي أسلحة من طراز "ستورم شادو".
أحد أبرز مؤشرات إحتدام المواجهة الروسية الأطلسية المباشرة على أرض أوكرانيا ظهر مؤخراً أيضاً بإعلان مسؤولان أمريكيان إن روسيا حاولت تدمير منظومة صواريخ "باتريوت" في اوكرانيا بصاروخ فرط صوتي وفشلت، بسبب براعة الجيش الأوكراني في أول استخدام للمنظومة الأمريكية بعد اسابيع من وصولها للبلاد، كما اعلنت أوكرانيا تحييد ما وصفته بأقوى أسلحة روسيا التي تفوق سرعة الصوت، باسقاط صواريخ "كينجال" التي أطلقت على كييف، وهي الصواريخ التي قالت روسيا إنها تستطيع التغلب على جميع أنظمة الدفاع الجوي، في حين نفت روسيا اعتراض صواريخ "كينجال" وقالت إن أحدها دمر أنظمة الدفاع الجوي باتريوت، التي قدمتها الولايات المتحدة. وتثير امكانية إعتراض أفضل أسلحة الصواريخ بمنظومات غربية تكهنات الخبراء، حيث تصر روسيا على أن صواريخ "كينجال" ـ التي تقول إنها تستطيع عبور أكثر من 11 ألف كلم في الساعة - لا يمكن لأي نظام جوي في العالم تدميرها.
الشواهد تقول إن أوكرانيا قد تحولت إلى مختبر كامل لقياس فاعلية الأسلحة الغربية في مواجهة نظيرتها الروسية، حيث بدأت شحنات من الأسلحة الأكثر تطوراً في التدفق لدعم قدرات الجيش الأوكراني، وهناك أسلحة يجري تعديلها في بيئة عمليات قتالية فعلية، كصواريخ تطلق من الطائرات جرى تعديلها لتطلق من شاحنات، وعربات مدرعة يعاد اختبار قدرتها على العمل بفاعلية في بيئة قتال كثيفة الألغام، وقياس قدرة الطائرات من دون طيار على نقل الإمدادات للخطوط الأمامية وهكذا.
ثمة تحول عملياتي آخر يتمثل في إنتقال الجيش الأوكراني فعلياً من استخدام أسلحة ومعدات اعتاد عليها منذ فترة "حلف وارسو" إلى العمل على أسلحة ومعدات وذخيرة "حلف الناتو". وتدريجياً، تتحول ساحة المعركة في أوكرانيا إلى مواجهات صريحة بين أسلحة أطلسية وروسية، في ظل توالي الإعلانات الأمريكية عن إرسال عربات مدرعة ودبابات وذخائر وأنظمة دفاع صاروخية وصواريخ إلى أوكرانيا.