يعتزم وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن التوجه يوم السادس من الشهر الجاري إلى المملكة العربية السعودية في زيارة تجذب إهتمام المراقبين في ضوء التوترات التي طغت في الفترة الأخيرة على علاقات البلدين الحليفين. ونقلت التقارير الإعلامية عن دبلوماسي أمريكي رفيع قوله "إن هناك عملاً كثيراً نريد الانتهاء منه، تركيزنا ينصب على برنامج عمل للدفع بالأمور قدماً"، ويقصد هنا ـ على الأرجح ـ أن هناك برنامج عمل أمريكي للحفاظ على زخم العلاقات مع المملكة رخم الاختلافات القائمة في الأهداف والمصالح الإستراتيجية بين البلدين الحليفين.
الشواهد تقول أن خطوط الإتصال بين الرياض وواشنطن لم تنقطع في أي مرحلة من المراحل الماضية التي شهدت خلافات صامتة أو معلنة بين الطرفين، وأن هناك تعاوناً مستمراً في المجالات كافة لا سيما العسكري والأمني والسياسي، وأحدث حلقات هذا التعاون تتمثل في وساطة البلدين بين طرفي النزاع في السودان، خلال محادثات عقدت مؤخراً في جدة.
الولايات المتحدة من جانبها تتمسك بصيغة التعاون الإستراتيجي القائم مع المملكة العربية السعودية، حيث يتشارك الجانبان في ملفات وقضايا عدة أهمها مكافحة الإرهاب الدولي، وهي المهمة التي لا تزال تمثل تحدياً لنحو 80 دولة شكلت فينما بينها عام 2014 تحالفاً دولياً لمكافحة الإرهاب، حيث انتقلت تنظيمات الإرهاب من العراق وسوريا إلى إفريقيا، حيث تنتشر المناطق الرمادية التي تعاني غياباً للدولة الوطنية، فضلاً عن بقية الظروف التي تسهم في تفشي الإرهاب وتمدده إقليمياً. ولعل الاجتماع الذي تستضيفه المملكة للدول الأعضاء في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم "داعش" يمثل إحياء جديداً للتحالف ويبعث برسالة قوية على أن الإرهاب لم يزل أولوية ضمن أولويات هذه الدول وسط انشغالات العالم أجمع بالأزمات والكوارث، وفي مقدمتها الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
بلاشك أنه من المهم ألا تفقد القوى الاقليمية والدولية المؤثرة، كالمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، بوصلة الإهتمام بأولويات إستراتيجية كمكافحة الإرهاب والتصدي له، وألا يؤثر التباين في وجهات نظرها حيال قضايا أخرى على مثل هذه الأولويات، وهذا يحسب للدبلوماسية السعودية التي تحرص على بناء التوازنات والابقاء على الإهتمام والأولويات في هذه المرحلة الحيوية من العلاقات الدولية.
بلاشك أيضاً أن إستمرار الحوار السعودي ـ الأمريكي واستقبال المملكة لمسؤولين أمريكيين اثنين خلال أقل من شهر (استقبلت المملكة قبل أسابيع قلائل مستشار الأمن القومي الأميركي جايك ساليفان)، يعني حرص الرياض على الاضطلاع بواجباتها ومسؤولياتها الإقليمية والدولية المترتبة على مكانتها وثقلها الإستراتيجي، اقتصادياً وسياسياً وروحياً، والإصرار على ترسيخ قواعد جديدة لإدارة علاقاتها مع القوى الدولية الكبرى من خلال سياسة خارجية قائمة على التنوع والتعددية والندية والبقاء على مسافة واحدة من الجميع، بما يضمن للمملكة الحفاظ على مصالحها والبقاء بمنأى عن التحالفات والمحاور الأحادية.
الواضح أيضاً أن واشنطن تعمل في إطار ما وصفه الرئيس جو بايدن في نهاية العام الماضي بـ"إعادة ضبط" العلاقات مع المملكة العربية السعودية عقب قرار الأخيرة خفض إنتاج النفط التزاماً بقرار "أوبك+"، وهو توجه ليس بالضرورة سلبياً كما اعتقد الكثيرون، فالولايات المتحدة تدرك جيداً مدى أهمية المملكة بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، كما تدرك كذلك عواقب التخلي عن شراكتها الإستراتيجية وتحالفها التقليدي التاريخي مع المملكة، ولاسيما في إطار التنافس الإستراتيجي المحتدم مع الصين وروسيا وغيرهما على الهيمنة والنفوذ في نظام مابعد أوكرانيا، فضلاً عن أن "الرسائل" غير المباشرة التي بعثت بها الرياض قد استقرت في عنوانها المنشود في دوائر صنع القرار بواشنطن، وأدرك الجميع أن قواعد اللعبة قد تغيرت وأن السياسة الخارجية السعودية تتغير وأن على الدبلوماسية الأمريكية مواكبة هذا التغير بما يحفظ للولايات المتحدة مصالحها بعيداً عن أي صدام مع أحد أبرز الحلفاء التاريخيين في الشرق الأوسط.
بموضوعية نقول أن الدبلوماسية السعودية قد نجحت في الإمساك بزمام المبادرة والتحرك وفق لمصالحها في هذه المرحلة، وحظيت بالتقدير والاحترام، وتخلصت بهدوء وبشكل تدريجي مدروس من الأطر والقواعد القديمة الحاكمة لعلاقاتها التقليدية مع الحليف الأمريكي، لتدخل في مرحلة نوعية جديدة سيكون لها قواعد وأطر جديدة، وهو ماتجسد بشكل جلي في تصريحات المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي التي قال فيها "نحن نركز على المستقبل... إنها شراكة استراتيجية مهمة"، مضيفاً "هذا لا يعني أننا نتفق دائماً مع السعوديين في كل شيء أو أنهم يتفقون معنا في كل شيء. لدينا بالتأكيد خلافات في الرأي"، وهذا الاعتراف المهم بأن العلاقات بين الحليفين التقليديين تستوعب الخلاف وتحتمل تباين وجهات النظر هو تطور نوعي كبير في إدارة العلاقات السعودية ـ الأمريكية.ً
الولايات المتحدة تدرك تماماً أن نظام عالمي جديد يتشكل، وأن مناطق النفوذ الحيوية كالخليج العربي، وما تردد خلال سنوات فائتة بشأن تراجع أهمية الوقود الاحفوري وغير ذلك قد دحضته الأحداث المتسارعة، وترى كيف أن منافسيها الاستراتيجيين يتمددون في كل مساحة ينحسر فيها النفوذ الأمريكي، وبالتالي نرى تصميماً أمريكياً على ترميم علاقاتها مع الحليف الإستراتيجي السعودي، وقبول فكرة الاستمرار في إطار التنوع، وهي في مجملها شواهد تعكس نجاح وفاعلية الدبلوماسية السعودية التي تمضي بخطى هادئة في ترسيخ نفوذها ودورها ومكانتها إقليمياً ودولياً.