حالة ترقب إقليمية ودولية واضحة بانتظار ماستسفر عنه الجولة الثانية غير المسبوقة من الإنتخابات الرئاسية التركية، والتي ستجري في الثامن والعشرين من الشهر الجاري بين الرئيس الحالي، مرشح حزب "العدالة والتنمية" رجب طيب أردوغان، ومنافسه الرئيسي زعيم حزب "الشعب الجمهوري"، كمال كليجدار أوغلو.
الجولة الأولى من الإنتخابات حصل أردوغان فيها على نسبة 49.5% من الأصوات، بينما حصل منافسه الرئيسي كليجدار أوغلو على 44.89% من الأصوات، وتبدو الجولة الثانية في غاية الصعوبة بالنسبة للرئيس أردوغان تحديداً، بالنظر إلى التقارب النسبي في أصوات الجولة الأولى (بفارق ثلاثة ملايين صوت) ووجود إحتمالية عالية لانضمام شريحة كبيرة من مؤيدي المرشح الثالث سنان أوغلو الفائز بنسبة 5% من الأصوات لمرشح المعارضة الذي يتماهى مع التوجه المتشدد لهذه الشريحة لاسيما فيما يتعلق بملف اللاجئين السوريين.
بالنسبة للرئيس أردوغان، تشير الاحصاءات إلى أن شعبيته لم تتراجع على الأقل بين مؤيديه القدامي الذين سبق لهم التصويت له في إنتخابات عام 2018، التي حصل فيها أردوغان على حوالي 26 مليون و300 ألف صوت مثّلت نحو 52% من الأصوات، بينما حصل في الجولة الأولى من إنتخابات عام 2023 على حوالي 27 مليون و90 ألف صوت مثلّت حوالي 49.51% فقط من الأصوات، ما جعله بحاجة إلى نصف بالمائة تقريباً كي يجتاز هذه الجولة.
هذه المؤشرات تعني أن أردوغان إما أنه لم يحصل على أغلبية أصوات الناخبين الجدد، الذين انضموا حديثاً للقوائم الانتخابية، وصوتواً للمرة الأولى في حياتهم، ويشكلون ما يقرب من 8 % من الناخبين، حيث رصدت استطلاعات الرأي بالفعل تأرجح آرائهم بنسبة كبيرة بين المرشحين، أو أن أردوغان قد فقد نسبة ليست قليلة من مؤيديه في الانتخابات السابقة لأسباب طبيعة مثل الوفاة أو غير طبيعية مثل تغيير الرأي والفكر وبالتالي بوصلة التأييد. في المقابل لا يمكن انكار أن الحفاظ على هذه النسبة من الشعبية في ظل الضغوط الهائلة الناجمة عن مشكلات الإقتصاد وارتفاع التضخم بنسبة تصل إلى 45% فضلاً عن تداعيات الزلزالين المدمرين قبل الانتخابات بأشهر قلائل، يمثل هذا انجازاً سياسياً جيداً للرئيس أردوغان، الذي توقع البعض سقوطه بسهولة أمام مرشح تحالف غير مسبوق للمعارضة التركية.
احصائياً، لا يمكن إعتبار فوز أردوغان بالجولة الثانية أمراً مسلماً به، ويصعب القول بأن الفارق التصويتي الذي نشأ في الجولة الأولى يمكن أن يتكرر بذاته في جولة الإعادة، لأسباب عدة أبرزها أن هناك حوالي 5% من الأصوات يفترض أن تذهب لأحد المرشحين أو تتوزع بينهما، ولكنها في الأغلب ستتجه إلى أوغلو بحكم توجهات مؤيدي المرشح الثالث الذي خرج من السباق، ما لم تحدث مقاطعة من هذه المؤيدين للتصويت وهو أمر غير مرجح. وفي مقابل ماسبق نجد أن الحشد التصويتي للمعارضة قد بلغ على الأرجح ذروته في الجولة الانتخابية الأولى، وأن قدرة تحالف أردوغان الحاكم الفائز بالانتخابات البرلمانية على الحشد التصويتي للنسبة المتبقية من المصوتين ستكون أعلى بمراحل من المعارضة، لاسيما أن عدم فوز أحزاب المعارضة بالغالبية البرلمانية وعدم تجاوز مرشحها التوافقي الجولة الأولى يمثل إحباطاً للكثير من مؤيديها، وتحديداً من يسعى من هؤلاء إلى التغيير من خلال إعادة النظام البرلماني حيث لم يعد ذلك ممكناً حتى في حال خسارة أردوغان للجولة الثانية لأن تركيبة البرلمان المقبل تبقى لمصلحة تحالف "الجمهور"، في المقابل نجد زيادة في الحماس لدى أنصار "العدالة والتنمية" الذي يقود تحالف "الجمهور" الفائز بالغالبية البرلمانية في الانتخابات الأخيرة، حيث سيحفز فوز التحالف بالانتخابات البرلمانية قدرة أنصاره على الحشد التصويتي ورفع نسبة المشاركة في الجولة الثانية، أو على الأقل ضمان الابقاء على النسب ذاتها في ظل توقع انحسار مشاركة ناخبي المعارضة.
أحد المؤشرات المهمة في قياس توجهات الرأي العام التركي يتمثل في نتائج الانتخابات البرلمانية، حيث لا يزال حزب "العدالة والتنمية" يحتفظ بمعدلات التصويت الأعلى في البلاد (268 مقعداً برلمانياً من إجمالي 600 مقعد) يليه حزب الشعب الجمهوري بفارق كبير (169 مقعداً) ما يعني أن تركيا برلمانياً لا تزال تميل إلى "العدالة والتنمية" بنسبة كبيرة، ولكن هذا الأمر لا ينفي تراجع شعبية الحزب ذي الخلفية الإسلامية بنسبة لا تقل عن 7% مقارنة بالانتخابات السابقة، وعلينا أن نتذكر أن هذه النتائج تخالف توقعات المراقبين الذين تكهنوا بانهيار شعبية الرئيس وحزبه عقب الزلزالين المدمرين.
هناك مؤشرات مهمة في مصلحة أردوغان أيضاً منها فقدان تصويت اسطنبول بفارق بسيط 2% وهو ما يعكس تغيير نسبي في هوى سكان هذه المدينة ذات الثقل، وهناك أيضاً فوزه بغالبية أصوات مناطق ضربها زلزال 6 فبراير مثل قهرمان مرعش (71.88 ٪)، رغم الإنتقادات التي وجهت لحكومته بشأن الإستجابة للحدث.
الشواهد وتقارير الرصد تقول إن جبهة الرئيس أردوغان ترى فيما حققه نجاحاً كبيراً يتعين استكماله بالفوز بالجولة الثانية، وأن هناك حالة رضا عما تحقق في الجولة الأولى بالنظر إلى توحد المعارضة غير المسبوق والبيئة السياسية والظروف الإقتصادية المحيطة بالانتخابات، أما على الصعيد الآخر هناك تقارير عن إحباط يسود أوساط المعارضة التي تأهبت لفوز مرشحها من الجولة الأولى، وأنها بلغت أقصى طاقاتها على الحشد وأن عدم فوزها بالانتخابات البرلمانية قد يفت في عضدها، وما لم تتم لملمة هذه التداعيات، ولاسيما ما يتعلق بالجدل حول إختيار مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو مرشحاً لها، سيكون من الصعب على تحالف المعارضة خوض الجولة الثانية بالقوة ذاتها التي تحققت في الجولة الأولى.
ويبقى التحدي الأكبر للمتنافسين في الجولة الثانية من إنتخابات الرئاسة التركية متمثلاً في القدرة على حشد الناخبين للذهاب للاقتراع، وفي جميع الأحوال ستبقى تركيا في حالة إستقطاب سياسي عميقة بين أنصار التوجه العلماني والقومي، ومؤيدي التيار التقليدي المحافظ ذي الخلفية الدينية في أغلبه، فضلاً عن معركة سياسية أخرى تتعلق بالصلاحيات في حال فوز مرشح المعارضة، حيث سيعاني "العدالة والتنمية" مما قدمت يدا أردوغان بمنح الرئيس صلاحيات واسعة في الدستور الحالي.