التساؤل الأكثر إلحاحاً لدى مراقبي الشأن الأمريكي خلال الفترة الراهنة يتعلق بتأثير نجاح السيدة جين كارول البالغة من العمر 79 عاماً في إثبات واقعة الإعتداء الجنسي على الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتحميله المسؤولية القانونية عن هذا السلوك، حيث قضت المحكمة لها بتعويض قدره 5 ملايين دولار، في خطوة تطلبت "شجاعة كبيرة في مواجهة من كان أحد أقوى الشخصيات في العالم وقد يكون كذلك مرة أخرى"، بحسب وصف تقرير صحيفة "الجارديان" البريطانية.
هذا "النصر القضائي" أثار نقاشات واسعة بين الخبراء والمتخصصين حول حدود تأثيره على حظوظ ترامب الإنتخابية في السباق الرئاسي المقبل، ولكن الكثيرين يتفقون على أن نجاح هذا التحرك القضائي قد يغري آخرين على فتح جبهات قضائية جديدة ضد ترامب، لاسيما فيما يتعلق بملفات التحرش بالنساء، التي تشير تقارير الإعلام الأمريكي إلى أنها تمثل "تاريخاً حافلاً" للرئيس السابق، والمرشح الأكثر حظاً لخلافة الرئيس بايدن.
إستطلاعات الرأي التي أعقبت الإعلان عن قرار المحكمة تعكس عدم تأثر شريحة الناخبين من النساء تحديداً بالقرار، حيث ارتفعت نسبة مؤيديه مقارنة بما حصل عليها في عامي 2016 و2020، بما يوفر مؤشراً جيداً لبناء تقدير مبدئي بأن فرص ترامب في الفوز بترشيح الحزب الجمهوري والفوز بولاية رئاسية جديدة لا تزال قائمة وبقوة.
الحكم الصادر بالإدانة من هيئة محلفين أمريكيين ضد ترامب، والذي وصفه الأخير بأنه "وصمة عار" يمثل تحدياً انتخابياً لايستهان به رغم كونه يتعلق المسوؤلية المدنية وليست الجنائية، حتى أن بعض أعضاء الكونجرس الجمهوريين قد اعتبروا الحكم عائقاً دون نجاح ترامب في الوصول مجدداً للبيت الأبيض. وبالمقابل، هناك شواهد كثيرة تؤكد أن الحكم قد لا يشكل عائقاً تصويتياً لرجل اعتاد على كسب مثل هذه الرهانات السياسية ولديه قاعدة انتخابية عريضة لا تنظر باهتمام لسلوكياته ولا أقواله بقدر ماتنظر إلى مواقفه ووجهات نظره حيال مختلف القضايا التي تتعلق بالشأن الأمريكي.
برأيي، فإن المعضلة الوحيدة التي انتجها الحكم هي معضلة أخلاقية لدى بعض قدامي الجمهوريين، حيث يعتقد هؤلاء أن الحزب بحاجة إلى قيادة تمتلك "الأهلية" والقدرة على توحيد الحزب وتجاوز الإنقسامات الداخلية التي يعانيها حالياً، فضلاً عن أن قيادات الحزب يرون في فرصة هزيمة الرئيس الحالي جو بايدن تبدو كبيرة ، ولكنها تحتاج إلى منافس يصعب على الديمقراطيين الطعن في أهليته، وشن الحملات الإعلامية ضده.
بايدن، الذي أعلن ترشحه رسمياً للفوز بولاية رئاسية ثانية، دشن حملته الانتخابية تحت شعار " فلننجز المهمة"، هو أكبر مرشح يخوض حملة جديدة للوصول للبيت الأبيض، حيث يبلغ من العمر 80 عاماً، ولا يبدو مقنعاً لشريحة كبيرة من الشعب الأمريكي، حتى بين الديمقراطيين أنفسهم، يعاني نقطة ضعف تتعلق بعمره يضاعفها زلاته وعثراته اللفظية العديدة التي وقع فيها منذ توليه منصبه الحالي، بما ينبىء أن السنوات الأربع المقبلة ستكون صعبة للغاية في ظل وضع صحي لا يتناسب مطلقاً مع التحديات المتفاقمة التي تواجه النفوذ الأمريكي عالمياً، كما يصعب عليه بذل الجهد اللازم لتجاوز الانقسامات العميقة التي يعانيها المجتمع الأمريكي منذ الانتخابات الرئاسية الماضية، لذلك لا يبدو طريقه للفوز بولاية رئاسية ثانية ممهداً كما كان الحال للرؤساء السابقين، حيث لاتبدو عملية إعادة إنتخاب الرئيس لولاية ثانية من المسلمات كما كان حال سابقيه سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين.
تحدي ترامب وإصراره على خوض السباق الرئاسي المقبل، سيكون سبباً في توحيد الديمقراطيين خلف بايدن، لاستكمال ما حققوه من انتصار سياسي غير متوقع في انتخابات التجديد النصفي التي جرت العام الماضي، ولكن في المقابل تبدو فرص الرئيس الحالي مرهونة إلى حد كبير بالوضع الاقتصادي الداخلي من ناحية، وبمصير الحرب الدائرة في أوكرانيا من ناحية ثانية، لاسيما أن الولايات المتحدة قدمت عشرات المليارات إلى كييف، وفي حال عدم تحقق الأهداف الأمريكية المرجوة من تلك الحرب، فإن صورة بايدن كقائد كفؤ لبلاده ستقوض تماماً.
السيناريوهات جميعها لا تزال مفتوحة، فالقضايا التي تلاحق ترامب مستمرة، فهناك قائمة من القضايا الجنائية التي لم يتم البت فيها حتى الآن، ولكن الشواهد تقول إن الأمر لن يحسم عبر نتائج التحقيقات، التي تجيد حملة ترامب توظيفها دعائياً بشكل جيد، حيث تتواصل التبرعات السخية لحملته رغم لائحة الاتهام الأخيرة التي صدرت ضده، حيث يتم الترويج للاتهامات باعتبارها "اضطهاد سياسي" يتعرض له الرئيس السابق، وهو ما يعزز حماس مؤيديه وأنصاره.
الحقيقة فيما سبق أن مكانة الولايات المتحدة في النظام العالمي ستعاني بشدة خلال المرحلة المقبلة سواء نجح بايدن في الفوز بولاية رئاسية ثانية، أو عاد ترامب إلى السلطة، ففي الحالتين لن تستطيع واشنطن معالجة التحديات الاستراتيجية الدولية المتنامية في ظل أياً منهما، سواء بسبب ضعف قدرة الأول على الدفاع عن مصالح بلاده سواء بتأثير التقدم في العمر أو لعوامل أخرى تتعلق بشخصيته ومؤهلاته القيادية، أو بسبب الجدل الذي يحيط بمواقف وسياسات وتوجهات الثاني.