يصعب قراءة أو فهم السلوك الإستراتيجي الغربي حيال بكين في الأونة الأخيرة سوى من خلال كونه إستفزاز متعمد للتنين الصيني، وهنا لا أقصد موضوع "منطاد" التجسس المزعوم، لأن هذا الموضوع لم تتضح بعد فيه سوى قمة جبل الجليد، وأن كان من المرجح أنه ـ وبغض النظر عن الحقيقة في الموضوع ـ سيتخذ "ذريعة" جديدة لبناء قضية وحشد الحلفاء الغربيين ضد الصين.
الولايات المتحدة تعلم تماماً حجم الإستنفار والحساسية الصينية تجاه تايوان في الوقت الراهن بالأخص، ومع ذلك تتواصل الأنباء عن إعتزام مسؤولين أمريكيين زيارة تايوان، ومن هؤلاء مايكل تشيس أكبر مسؤول عن ملف الصين بوزارة الدفاع الأمريكية، وهناك زيارة أخرى مرتقبة سيقوم بها كيفن مكارثي رئيس مجلس النواب الأمريكي. "البنتاجون" الأمريكي رفض إصدار تعليق يحد من التوقعات والتكهنات بشأن زيارة تشيس بل ألقى عليها المزيد من الغموض قائلاً إن الدعم الدفاعي الأمريكي لتايوان ضد التهديدات الصينية القائمة يظل ثابتاً". التوترات لا تقتصر على الغاء زيارة وزيرة الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن إلى الصين، وهي الإشارة الأهم التي صدرت مؤخراً بشأن تفاقم التوتر بين البلدين، ولكنها تشمل تسريبات إعلامية تستفز الصين على الأرجح، ومنها تصريح نشرته وسائل إعلام أمريكية نسب إلى جنرال رفيع بالقوات الجوية الأمريكية قال فيه إنه يعتقد أن الولايات المتحدة والصين من المحتمل أن تتواجها عسكرياً بشأن تايوان عام 2025". ورغم أن "البنتاجون" علق على التصريح بانه لا يمثل وجهة نظر رسمية، فإن الكل يعرف أن إشارات جس النبض هذه لا تصدر من دون ترتيب وهدف محدد.
أحد جوانب الإهتمام الأمريكي المتزايد بالملف التايواني في الوقت الراهن لايقتصر على كون الملف أحد نطاقات التجاذب الحزبي بين الديمقراطيين والجمهوريين، ولكن أيضاً لأن هناك دوائر أمريكية ترى أن الصين تراقب حرب أوكرانيا بجدية وأن نتائج هذه الحرب ستنعكس حتماً على مصير تايوان، لذا نلحظ أن الولايات المتحدة تعكف جدياً على استخلاص الدروس من هذه الحرب، للاستفادة منها في أي صراع محتمل مع الصين بشأن الجزيرة، التي يعتقد الكثيرون أن واشنطن قد تجد نفسها متورطة بشكل مباشر في الدفاع عنها بخلاف الحالة الأوكرانية التي تكتفي الولايات المتحدة فيها بتقديم الدعم المالي والعسكري.
التقديرات الأمريكية المتداولة مؤخراً تشير إلى غزو صيني محتمل لتايوان ما بين عامي 25 و27، وفي ظل سياسة الغموض ـ الرسمية على الأقل ـ التي تنتهجها الولايات المتحدة حيال تايوان، فإن هناك تقديرات بأن "معركة تايوان" قد تكون الصراع الحاسم للقيادة والسيطرة في النظام العالمي القادم. هذه التقديرات تفسر إلى حد ما التركيز الأمريكي المتزايد على تايوان، لاسيما أن حالة الجزيرة تختلف عن الحالة الأوكرانية، حيث لا يمكن تكرار سيناريو دعم أوكرانيا بحكم قدرة الصين على عزل تايوان، وتطويقها من جميع الجوانب للفترة التي تريدها، وحيث يتوقع البعض أن يكون فرض هذا الحصار، البحري والجوي، مقدمة ضرورية لاستعادة الجزيرة عسكرياً، وهذا يعني بالتبعية ان تسعى الولايات المتحدة لتزويد تايوان بالأسلحة والعتاد الازم للدفاع عن نفسها قبل خوض أي صراع مع الصين، حيث يتوقع أن تخوض تايوان هذا الصراع المحتمل بما تمتلكه من أسلحة فقط من دون انتظار لأي دعم خارجي خلال فترة النزاع.
المعضلة القائمة الآن أن مخزونات الأسلحة الأمريكية تواجه ضغوطاً كبيرة بسبب الدعم المقدم لأوكرانيا، ولاسيما أن إطالة أمد الحرب كان سيناريو خارج التوقعات، فضلاً عن أن زيادة رغبة الغرب في دحر روسيا وكسر شوكتها عسكرياً يملي عليها زيادة التعزيزات العسكرية والدعم المالي لأوكرانيا، وهذه في مجملها أمور تجعل من الصعب التفكير في تقديم دعم عسكري لتايوان سواء بسبب شح المخزون العسكري أو بسبب القلق من استفزاز الصين ودفعها إلى خوض حرب استباقية تضع الغرب في موقف معقد للغاية في مواجهة حليفين قويين (روسيا والصين) في وقت واحد.
ورغم أن ظروف تايوان تختلف عن أوكرانيا ولاسيما فيما يتعلق بطبيعة الإحتياجات العسكرية، حيث تتركز الإحتياجات التايوانية في معدات بحرية ـ نظراً لطبيعتها الجغرافية التي ترسم أي خطة عسكرية للغزو المحتمل ـ لم يتم تزويد أوكرانيا بها، فضلاً عن معدات دفاع جوي، فإن الواقع يقول أن فتح جبهة صراعية جديدة ـ بحكم إستمرار حرب أوكرانيا وصعوبة توقع انتهائها قريباًـ يضع الغرب بقيادة الولايات المتحدة في موقف إستراتيجي حرج للغاية، قد يتسبب في انتصار روسيا وفقدان أوكرانيا للأبد، وقد يتسبب في خسارة المعركتين معاً (تايوان وأوكرانيا)، ما يتوجب معه الحذر في التعامل مع الملف التايواني على الأقل، ولكن الحاصل أن السلوكيات الأمريكية تتصاعد بشكل لافت حيال الصين، حيث تراهن واشنطن في ذلك على رغبة بكين في تفادي نشوب أي صراع أو جرها لحرب استنزاف قد تنهي طموحاتها المستقبلية أو تؤخرها، ولكن في مقابل ذلك يجب الحذر من نفاد صبر الصين، التي تخشى تقويض مصداقيتها وتعرض كرامتها الوطنية لإهانات واستفزازات متكررة قد يضعها في موقف يملي عليها إتخاذ قرار سريع لاستعادة تايوان عسكرياً.
اللافت فيما يدور من حولنا أن واشنطن تدرك أن سلوكياتها حيال الصين تثير غضب الأخيرة بالفعل، وهو ماعكسته بالفعل تصريحات ويندي شيرمان، نائبة وزير الخارجية الأمريكية، التي قالت فيها "نأمل ألا تستخدم الصين زيارات يجريها مشرّعون أمريكيون لتايوان كذريعة للقيام بعمل عسكري"، مؤكدة التزام الولايات المتحدة بدعم تايوان وتعزيز قدرتها للدفاع عن نفسها في ضوء سياسة صين واحدة، وهو موقف يصعب فهمه إذ كيف تدعم الولايات المتحدة قدرات تايوان الدفاعية وفي الوقت ذاته تقر بالتزامها بسياسة صين واحدة! والأكثر من ذلك أن المسؤولة الأمريكية تقول إن "غزو روسيا لأوكرانيا يمثل درساً للصين بشأن تأثير أي تحركات في مضيق تايوان على أمن الطاقة والغذاء والضغوط التضخمية"، وهذا صحيح ولكن الدرس هنا لا يقتصر على الصين بمفردها لأن الغرب كان أكثر تضرراً منها في حرب اوكرانيا، لذا عليه أن يستوعب الدرس أولاً.
المسألة هنا لا تتعلق بالدفاع عن موقف الصين بشان تايوان ولا إتهام الولايات المتحدة بدفع الأمور تجاه الحرب، بل ترتبط أساساً بالأمن والاستقرار العالمي، حيث يتابع الجميع كيف تعاني غالبية إقتصادات العالم جراء حرب أوكرانيا وكيف أن هذه الحرب تسببت في معاناة مستمرة، للغرب نفسه قبل أي طرف دولي آخر، وبالتالي كيف لنا أن نتصور إندلاع صراع جديد بشأن تايوان، وماذا يمكن أن يحدث للعالم في ظل وجود حربين كبيرتين في آن واحد؟