رغم أن الرغبة الأمريكية في إلحاق الهزيمة بروسيا في حرب أوكرانيا كانت واضحة منذ بداية الأزمة في فبراير 2022، فإنها لم تكن على هذا القدر من الوضوح الذي عكسته المواقف والسلوكيات الأمريكية بعد إنقضاء عام من الحرب؛ حيث قام الرئيس الأمريكي جو بايدن بزيارة مفاجئة إلى كييف للقاء الرئيس فولوديمير زيلينسكي، حيث أعلن من هناك أن "كييف لا تزال صامدة" معتبراً أن هذا الوضع يمثل هزيمة لروسيا، ومؤكداً مواصلة دعم أوكرانيا في التصدي لـ"الغزو الروسي".
قبل هذه الزيارة كانت السيدة كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي تؤكد في مؤتمر ميونيخ للأمن بنبرة صارمة أن السماح للرئيس فلاديمير بوتين بالإنتصار في حربه ضد أوكرانيا سوق تكون له تداعيات الخطيرة، وسيشجع غيره من "الأنظمة السلطوية" على أن تحذو حذوه، والإشارات والمعاني والمضامين هنا واضحة والرسائل كذلك مفهومة.
اللافت أيضاً أن هناك إصرار أطلسي متزايد على تمكين أوكرانيا في الإنتصار في الحرب، حيث نشر سبعة من القادة الكبار السابقين في حلف شمال الأطلسي مؤخراً رسالة يدعون فيها الولايات المتحدة إلى تكثيف جهودها لتحقيق نصر أوكراني، والحجّة الأهم التي أوردها في رسالتهم هي أيضاً القلق من إستنساخ الصين تجربة روسيا في أوكرانيا وتطبيقها ضد تايوان، وكأن الصين ـ بكل تاريخها وعمقها الحضاري والثقافي ـ تنتظر حرب أوكرانيا كي تستفيد منها في بناء قرار إستراتيجي قد يؤثر في مستقبلها كقوة دولية كبرى!.
المغزى الأهم في ذلك أن واشنطن باتت على قناعة تامة بضرورة إستمرار حرب أوكرانيا حتى إلحاق الهزيمة بروسيا أو إنهيار قدرة الجيش الأوكراني على المواجهة، وأن هذا هو هدف إستراتيجي أمريكي رئيسي لا حياد عنه رغم القناعة المسبقة لما يحيط بفرص تحقيقه من تعقيدات تجعل منه سيناريو مستبعد من قائمة الإحتمالات الواقعية.
هذا الإصرار الظاهري الأمريكي ـ بغض النظر عن فرص تحققه ـ يعني أننا بصدد كارثة إستراتيجية حقيقية لأنه ينهي أي أمل في تسوية وشيكة تنهي الحرب وتوقف تداعياتها الكارثية على إقتصادات معظم دول العالم، ويعني كذلك أن القلق الإستراتيجي الأمريكي حيال الصين يتنامي بشكل مخيف، بما يجعل فكرة المواجهة بين القطبين قائمة ولو بدرجة قليلة، وقد قرأنا مؤخراً أن الفكرة التي كانت نظرية حتى وقت قريب قد إنتقلت إلى غرف المداولة ومحاكاة سيناريو الحرب الصينية ـ الأمريكية المحتملة.
المعضلة في التوجه الأمريكي بالغ الخطورة أن روسيا ليست قوة من الدرجة الثانية ولا دولة يمكن تحقيق نصر عسكري كامل عليها، بل هي قوة نووية تمتلك من الأسلحة والعتاد ما يمكنها من إلحاق دمار هائل بالطرف الآخر، وبالتالي ليس من العقلانية السعي لإلحاق هزيمة مذلة بجيشها، وهناك الكثير من التحذيرات بشان هذه الإدارة الصفرية للصراع، وأبرزها تحذير وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في "دافوس" من السعي لإلحاق هزيمة ساحقة بروسيا بما يُخلف عواقب وخيمة على إستقرار أوروبا على المدى البعيد، ومحذراً من إجبار روسيا على الدخول في حلف دائم مع الصين، كما نشر كيسنجر مقالاً بمجلة "ذي سبيكتاتور" نهاية العام الماضي تضمن نصيحة مهمة بشأن ضرورة البحث عن نقطة التحول في حرب أوكرانيا واستغلالها لوقف الحرب، واقترح أن يكون الشتاء هذه النقطة، والاكتفاء بما تحقق من تغييرات إستراتيجية مهمة برأيه مثل تحول أوكرانيا إلى دولة رئيسية في وسط أوروبا للمرة الأولى في التاريخ الحديث، وإفشال الهجوم الروسي وضم أوكرانيا رسمياً لحلف "الناتو"، ومناقشة اللجوء إلى خيارات سياسية في المناطق المتنازع عليها مثل إجراء استفتاءات حق تقرير المصير، محذراً من مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لأوروبا وهي تفكك روسيا وتدمير قدرتها الإستراتيجية بما يحولها إلى مناطق صراع تضم 11 خط طول لتشعل حروباً جديدة خطيرة بسبب وجود الأسلحة النووية والصواريخ الإستراتيجية.
تدرك إدارة الرئيس بايدن جيداً أن الرئيس بوتين لن يقبل بهزيمة كاملة لجيشه في أوكرانيا، وتدرك أيضاً أن تحقيق هذا الهدف يبدو صعب المنال في ضوء المعطيات الواقعية وتوازنات القوى، ولكنها تمارس على الأرجح أقصى ضغط ممكن على الكرملين للتراجع، ولكنها هنا لا تجيد قراءة عقلية الرئيس الروسي الذي لا يمكن له القبول بفكرة الإنسحاب الكامل من أوكرانيا من دون مقابل في ظل ما خسرته بلاده في هذه الحرب اقتصاديا وعسكرياً وبشرياً، ناهيك عن خسارته الشخصية على الصعيد السياسي، ومحو كل الإنجازات النوعية الكبيرة التي حققها لروسيا منذ توليه السلطة.
الحقيقة أن الولايات المتحدة لا يجب أن تواصل إختبار حدود صبر روسيا لمدى أبعد، وهنا نشير إلى أن الكرملين قد تعاطي بحكمة بالغة مع زيارة بايدن مؤخراً لكييف، حيث قام الرئيس الأمريكي بهذه الزيارة رغم كل إحتمالات الخطر التي تحيط بها، حيث استقل بايدن القطار لمدة عشر ساعات من حدود بولندا إلى العاصمة الأوكرانية في رحلة لا يمكن القول سوى أنها محسوبة بشكل دقيق للغاية، ولاسيما في ظل عدم وجود أي غطاء جوي أمريكي أو أطلسي لحماية موكبه، ما يعني أن روسيا التي تم إخطارها رسمياً قبلها بساعات، قد تفادت تماماً التورط في أي حادث قد يتسبب في إندلاع حرب عالمية ثالثة حال تعرض موكب الرئيس الأمريكي لأي خطر أو قصف ولو من بعيد.
ثمة جانب خطير فيما يتعلق بالموقف الأمريكي وهو رغبة الرئيس بايدن الشخصية في تحقيق إنجاز نوعي تاريخي بعيداً عن الحسابات التقليدية، فرحلته إلى أوكرانيا وصفت بالجريئة لظهوره في منطقة حرب تتعرض لضربات بشكل منتظم، وقد حرص بالفعل على إلتقاط الصور رغم أجراس الإنذار، ولذا وصفها البيت الأبيض بأنها "زيارة غير مسبوقة في العصر الحديث"، وقال المتحدث إن الرحلات الرئاسية السابقة للعراق وأفغانستان في أوقات الحرب كانت مدعومة بحضور عسكري أمريكي كبير، وهو ما لم يحدث في هذه المرة بالفعل، ولكنه قام بالزيارة على الأرجح في حماية الصمت والحذر الروسي! وقد وصفت مديرة الإتصالات بالبيت الأبيض كايت بدينغفيلد زيارة بايدن لكييف بكل ما لها من رمزية بأنها "كانت مخاطرة يجب ألا تترك مجالاً للشك في ذهن أي أحد بأن جو بايدن قائد ياخذ تعهداته على محمل الجد"، وهنا تقفز إلى ذهن المراقب بالتبعية مسألة الترشح لولاية رئاسية ثانية مدعوماً بصورة "القائد" الذهنية التي سيعمل عليها دون شك الديمقراطيين لتسويقها لدى الناخب الأمريكي في مواجهة أي مرشح جمهوري محتمل.