في قرار وصفته الدول الغربية بالخطير، أعلنت روسيا تعليق مشاركتها في معاهدة "نيو ستارت" التي تعد آخر إتفاقية متبقية مع الولايات المتحدة للحد من التسلح، حيث إنسحبت موسكو وواشنطن من جميع الإتفاقيات التي كانت تمثل أساساً للحد من التسلح النووي والصاروخي، فضلاً عن الإنسحاب المتبادل من إتفاقية "السماوات المفتوحة" التي تسمح بتسيير رحلات مراقبة جوية في سماء الدول الموقعة على الإتفاقية، وانسحبت منها الولايات المتحدة في عهد ترامب، وتلتها روسيا، ما يثير تساؤلات عدة حول دوافع الكرملين من وراء هذا القرار، وردود الفعل الغربية المتوقعة للرد عليه.
في قراءة هذا التطور النوعي اللافت نجد أن روسيا تحاول مراكمة عناصر الضغط والقوة في مواجهة مواقف غربية تزداد تشدداً وصراحة حيالها، وهذه النظرة لا تنطوي على أي إنحيازات بقدر ماهي توصيف واقعي لما يحدث على الأرض.
البعض يرى أن تعليق المعاهدة لا يمثل بحد ذاته تطوراً فارقاً في مسألة الإنتشار النووي، لأننا بصدد دولة تمتلك ترسانة كبيرة من الأسلحة النووية، أما عن مسألة سباق التسلح الجديد فهو قائم ويتطور بالفعل ولا ينتظر تعليقاً لمعاهدة، لاسيما أن مخزونات التسلح التقليدية الروسية تتعرض لخطر النفاذ بسبب حرب أوكرانيا، فضلاً عن موسكو في هناك حاجة متزايدة لتعزيز القدرات العسكرية في ظل بروز إحتمالية جديدة تتعلق بخوض صراع عسكري مع حلف الأطلسي.
ماسبق لا ينفي بالطبع أن تعليق روسيا للمعاهدة يحفز قوى دولية أخرى على تطوير أسلحتها النووية والإستعداد لمواجهات محتملة، ولكن علينا ـ بالمقابل ـ أن ندرك أن هذه القوى، ولاسيما الصين ـ على سبيل المثال ـ لا تنتظر إشارة من الخارج لتعزيز قدراتها العسكرية ـ التقليدية او النووية ـ سواء لأن لديها إستراتيجية ذاتية على هذا الصعيد، أو لأن لديها جبهة صراعية مفتوحة مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بقضية تايوان، وبالتالي فإن تأثير هذا "التعليق" على توجهات أطراف دولية أخرى يبدو محدوداً، لاسيما أن حظر الإتشار النووي لا يعتمد على إتفاقية ثنائية بل على إطار عملي دولي لا يزال قائماً، ويتمثل في معاهدة الحد من الإنتشار النووي التي وقعتها نحو 93 دولة، بما فيها الصين وروسيا والولايات المتحدة، فضلاً عن معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
اللافت في الأمر أن مسؤولين غربيين يصفون قرار روسيا بالكارثة في حين أن هناك سباق قائم بين القوى الكبرى لتطوير الأسلحة النوعية فائقة القدرة، وأن الخطر ومصادر التهديد للأمن والإستقرار الدوليين لم تعد تتعلق بالأسلحة النووية فقط، لاسيما في ظل ترسخ قناعة بدرجة ما ببقاء السلاح النووي ضمن مربع الردع بالنظر إلى حجم الدمار الهائل المتوقع في حال إستخدامه من جانب أي طرف من أطراف الصراعات والمواجهات العسكرية القائمة أو المحتملة.
بلاشك أن النقطة الأهم في مسألة تعليق روسيا لـ "نيو ستارت" تتمثل في الآثار السلبية المتوقعة لإنحسار القيود والكوابح الخاصة بلجم الإندفاع العالمي نحو التسلح سواء تعلق الأمر بروسيا أو الولايات المتحدة أو غيرهما من الدول، لأن هذا الإنحسار المتزايد للقيود يأتي في وقت يتجه فيه العالم إلى بناء نظام عالمي بديل في ظل تراجع الهيمنة الأمريكية على النظام القائم، وهو أمر ينطوي على إحتمالية عالية لخوض صراعات مباشرة أو بالوكالة بين القوى المتنافسة وحلفائها، في مناطق متفرقة من العالم، وبالتالي فإن غياب أو تغييب أي كوابح تسهم في لجم هذا الاندفاع، يصب مباشرة في خانة معاكسة ويشجع الجميع على مراكمة القدرات العسكرية تحسباً لجولة/ جولات صراعية متوقعة.
الخاسر الأكبر في هذه التطورات الفارقة هو الأمن والإستقرار العالمي الذي يتدهور بشكل لافت في وقت تنحسر فيه كوابح وأدوار أخرى مثل دور الأمم المتحدة ومؤسساتها، ويشهد العالم أزمات موازية تحتاج للتعاون والتضامن بدلاً من الصراع والمواجهة، مثل نقص الغذاء وتفشي الأوبئة والركود الإقتصادي الناجم عن أسباب مختلفة، فضلاً عن التغير المناخي وغير ذلك.
الأرجح أن يُغذي القرار الروسي تحفز القادة الغربيين لفرض المزيد من العقوبات ضد موسكو، ومواصلة دعم أوكرانيا عسكرياً ومادياً وتوفير غطاء للتبريرات القائلة بوجود تهديد روسي خطير لأمن أوروبا، ولكن من الموضوعية القول بأن القرار لم يسهم في تشكيل السياسات الغربية تجاه روسيا ولكنه ربما يوفر لها غطاء مناسباً على الأقل من الناحية الدعائية والإعلامية.