ليس هناك أدنى شك فى خطورة الاعتداءات الإرهابية التى تعرضت لها فرنسا أخيرا، إذ أن هذه التفجيرات تنطوى على الكثير من الأبعاد والدلالات بالغة الخطورة والأهمية فى الوقت ذاته،
لدرجة أن بعض الخبراء قد وصفها بـ «11 سبتمبر الفرنسى» فى إشارة إلى اعتداءات الحادى عشر من سبتمبر 2001 التى تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية، ومثلت نقطة تحول تاريخية فى مسار العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الأمريكية.
وعندما يعتبر الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند الهجمات التى تعرضت لها بلاده بمثابة «حرب على فرنسا» وأن بلاده سوف ترد «بلا رحمة» فمعنى ذلك أن علينا توقع المزيد من الاضطراب الإقليمى خلال الفترة المقبلة، حيث يتوقع الكثيرون أن يكون الشرق الأوسط مسرح الرد الفرنسى على هذه «الحرب»، مثلما كان العراق وأفغانستان مسرحين للرد الأمريكى على اعتداءات 11 سبتمبر 2001.
لا أحد يستطيع التنبؤ بمآلات الأحداث خلال المدى المنظور، ولكن الأمر المؤكد فى هذه الأزمة أن الإرهاب قد توحش واستفحل خطره بدرجة لم يعد بمقدور المؤسسات والخبراء توقع ضربته المقبلة بعد أن استطاع إحداث اختراق هائل فى التحصينات والإجراءات الأمنية بعاصمة النور، ونفذ هجمات اجرامية راح ضحيتها 129 من الأبرياء.
حسابات الخسارة للعرب والمسلمين والدين الإسلامى فى هذه الهجمات البربرية تفوق ماعداهم من أطراف دولية أخري، فما تكاد محاولات ربط الاسلام بالإرهاب تهدأ حتى تجد لها وقودا جديدا من العمليات الإرهابية التى تشنها تنظيمات محسوبة على الدين الاسلامى زوراً وبهتاناً، بل ليس من المبالغة القول إن أعداء الاسلام لو حاولوا تشويه ديننا الحنيف ما استطاعوا تنفيذ نسبة ضئيلة مما فعله مجرمو «داعش» و «القاعدة» وغيرهم من تنظيمات الإرهاب والتطرف المنتشرة فى أرجاء العالم.
ورغم أن هذه الجريمة قوبلت بإدانة واسعة النطاق فى العالم أجمع، فإن الحقيقة تقتضى القول إن الجهود التى بذلت ـ حتى الآن ـ للقضاء على الإرهاب لايزال ينقصها الكثير والكثير، ولاتزال تمضى على استحياء وتخضع فى بعض الأحيان للمصالح السياسية بل توظف لتحقيق أهداف استراتيجية معنية من جانب بعض القوى الدولية الكبري، ومن ثم فإن هذه الجهود تبدو وكأنها محلك سر، ويكفى الاشارة إلى مرور نحو أكثر من عام على العمليات العسكرية التى ينفذها التحالف الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم «داعش» فى سوريا، والذى انطلق فى سبتمبر 2014، ولم تحقق نتائج نوعية على الأرض حتى الآن، فيما انخرطت روسيا هى الأخرى فى حرب ضد هذا التنظيم بداية من الثلاثين من سبتمبر الماضي، ولكنها لم تحقق هى الأخرى نتائج من شأنها تغيير موازين القوى على الأرض حتى الآن!!.
بحسبة بسيطة لعدد الطلعات الجوية التى يشنها طيران الدول المشاركة فى التحالف، فإننا نجد أنفسنا فى مواجهة أرقام قياسية للضربات الجوية ومعدلات إصابات الأهداف التى يعلن عنها من جانب الأطراف المختلفة المشاركة فى العمليات، سواء ضمن التحالف الدولى أو خارجه مثل روسيا، الأمر الذى يثير الاستغراب ويفرض بدوره تساؤلات جدية حول ماهية هذا التنظيم القادر على امتصاص هذا الكم الهائل من الضربات الجوية والبقاء، رغم ذلك محافظاً على معظم الأراضى التى كان يسيطر عليها قبل شن العمليات العسكرية ضده!!
الدرس الذى أستطيع استخلاصه فى مواجهات داعش واعتداءات فرنسا أن الكل خاسرون فى الحرب ضد اللإرهاب ما لم يتوصل المجتمع الدولى إلى صيغة أكثر واقعية فى محاربة تنظيمات الارهاب، بدلا من بيانات التعاطف والشجب والادانة، وليت الجميع يكفون عن المزايدة فى هذا الملف الحيوى والتعامل مع الظاهرة وفق حجمها وخطرها الحقيقى ومن دون تهوين أو تهويل، كما يتطلب الأمر أيضا الاتفاق على بعض النقاط الحيوية اللازمة لإنجاح الحرب ضد الارهاب، أولاها الفصل التام والمطلق بين تنظيمات الارهاب والدين الاسلامى ليس من الناحية المفاهيمية فقط بل أيضا من الناحية السياسية، فهذه التنظيمات لا تمثل بأى حال أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، وهذا الأمر يجب ألا أن يؤخذ بشكل ظاهرى بل يستحق معالجات جدية على المستوى المفاهيمى والقانونى والسياسي، بمعنى ضرورة التوصل إلى صيغة تفاهم دولية تضمن احترام الأديان جميعها وعدم الإساءة إليها، كما تتصدى للفتن الطائفية والدينية التى تتسبب فى إشعال الحرائق بالعديد من مناطق العالم الإسلامي، وهى فتن تقتات عليها تنظيمات الإرهاب ودعاة إشعال الحروب الدينية. كما ينبغى أيضا وجود إطار تفاهم دولى حول حساسية الأوضاع الدينية والطائفية فى منطقة الشرق الأوسط، بحيث تكف القوى الإقليمية والدولية عن العبث بهذا الواقع الفسيفسائى الحساس والمعقد من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها الاستراتيجية.
هناك حاجة أيضا إلى دعم جهود المؤسسات الدينية المعتدلة فى العالمين العربى والاسلامي، فضلا عن ضرورة وجود خطة «مارشال» دولية توعوية لتمويل خطط التحصين الفكرى ضد الارهاب، فضلا عن معالجة الإشكاليات التنموية والاجتماعية، سواء فى الغرب أو الشرق، فإذا كانت بعض مناطق العالم الاسلامى تعانى الفقر والفساد وضعف التعليم والجهل الذى يفتح الباب واسعا أمام توغل الفكر المتطرف، فإن الغرب يعانى أيضا بعض إشكاليات التهميش وضعف الاندماج والاغتراب الاجتماعى و»الاسلاموفوبيا» التى تتسبب فى بناء حوائط عزل لفئات من المسلمين وتسهيل مهمة الإرهابيين فى استقطابهم واستدراجهم لهذا الفخ اللعين.
الإرهاب فى حقيقة الأمر هو حرب ضد الانسانية جمعاء وليس ضد فرنسا أو لبنان أو روسيا أو مصر أو سوريا فقط، ومواجهته الحقيقية لن تكون فقط بطرد «داعش» من الأراضى التى يسيطر عليها فى العراق وسوريا فقط، بل إن الخطر يفوق ذلك بمراحل، وربما يكون الانتصار العسكرى المنتظر منذ فترة على التنظيم بمنزلة مرحلة «جزر» تلحقها مرحلة «مد» أخطر بمراحل فى ظل نتائج التتبع والتحليل التاريخى للظاهرة الإرهابية، التى تتطور وتتعمق وتتوسع بشكل جلى منذ ثمانينيات القرن العشرين.
علينا أن نعترف قبل ذلك كله بأنه كان هناك نوع من التباطؤ الغربى فى الانتباه لخطر الإرهاب، فالغرب لم يدرك حجم هذا الخطر سوى بعد ان تعرض لسلسلة من الاعتداءات الإرهابية المتوالية التى بلغت ذروتها فى الحادى عشر من سبتمبر 2001، رغم أن الإرهاب كان يوجه ضرباته إلى دول عربية وإسلامية عدة قبل ذلك بسنوات طويلة، بل إن عواصم غربية معروفة كانت تستضيف زعماء الارهاب وقادتهم بدعوى اللجوء السياسى وغير ذلك، والاعتراف هنا ليس لتحديد المسئوليات بل لتعويض مافات والانخراط الحقيقى الفاعل فى جهود التصدى للخطر.
أدرك أن الوقت غير مناسب للبكاء على اللبن المسكوب، والمؤكد أننى أرفض واستهجن تماما نبرة الشماتة الواضحة فى تعليقات بعض الكتاب والمحللين العرب على ماتعرض له الأبرياء فى فرنسا، ولكن الأمر جد خطير ويستحق من العالم وقفة تتماهى مع مستوى هذا الخطر الداهم والمتفاقم.