قد لا يكون هناك دليل على أن الرئيس الأمريكي باراك اوباما يعيش بالفعل مرحلة "البطة العرجاء" في نهاية سنوات حكمه أكثر من "قلة الحيلة" التي عبر عنها وزير خارجيته جون كيري في تعليقه على مايحدث في مدينة حلب السورية،
حيث قال أن الصراع في سوريا "خارج عن السيطرة في الكثير من الجهات"، فلم يحقق وزير خارجية القوة العظمى الوحيدة المسيطرة على النظام العالمي أي اختراق على صعيد السيطرة على العنف ضد المدنيين في ثاني أكبر مدينة سورية، واكتفى بالقول "هناك حاجة إلى المزيد من الجهد ولا يوجد ما يضمن النجاح"، مايجعلني أشعر بالشفقة على حال كيري، وهو "منزوع" الأدوات، وينافس المسؤولين الدوليين في الاكتفاء بالتعبير عن القلق والشعور بالاستياء.
والمؤكد أن الوضع البائس في سوريا يكشف عن أبعاد تحليلية عدة أهمها أن روسيا لم تخرج من المشهد السوري كما اعتقد الجميع عندما قرر الرئيس بوتين سحب معظم القوات من سوريا، بل إن استراتيجيته تجاه الشرق الأوسط لا تزال قائمة على التدخل الخشن في الأزمة السورية لمصلحة الحفاظ على الدور الروسي في هذا البلد العربي المهم، ما يعني أن التغير الذي طرأ على الموقف الروسي في هذا الملف، ربما يتمثل في تخفيف حدة التمسك الروسي ببقاء الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة في دمشق. وهذا لا يعني أن الكرملين يوافق على رحيل الأسد بالقوة، فروسيا حساسة تماماً لفكرة التغيير بالقوة، أو من خلال ما يعرف بـ "الثورات"، كونها تدرك تماماً ما وراء هذه "الثورات" والفاعلين الحقيقيين الذين يقفون وراء الكواليس فيها، فسيد الكرملين، ذي الخلفية الاستخباراتية، يدرك حقيقة حروب "الجيل الرابع" التي تقودها الولايات المتحدة لإحداث تغيير في الشرق الأوسط تحت ستار الديمقراطية وحرية التعبير.
وفي ضوء ماسبق، فإن بوتين لا يدافع في الحقيقة عن الرئيس بشار الأسد بل يسعى إلى تقويض استراتيجية حروب الجيل الرابع، ويثبت فشلها وأنها ستفتح أبواب الشرور على العالم أجمع، وفي مقدمته الدول الغربية ذاتها. ويبدو أن بوتين يستشعر محطات تالية لهذه الحروب في حال نجاحها في سوريا، فهناك محطات مرشحة بالفعل لانتقال "موجة التغيير"، ومن هذه المحطات طهران، وربما موسكو ذاتها، وهنا يجب الانتباه إلى أن الجنرال فاليري غيراسيموف رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية قد اعتبر مؤخراً أن ما يجري في سوريا ليس سوى "ثورة ملونة"، أي أنه ـ وفقا للتوصيف المفاهيمي الروسي ـ وسيلة للانقلاب على السلطة، وهو مايفسر موقف الكرملين المتشدد حيال إطاحة بشار الأسد بالقوة.
التدخل العسكري الروسي في سوريا لم يكن مكلفاً كما يعتقد البعض بعد أن وصفه الرئيس بوتين ذاته بأن كان "أفضل تدريب للقوات الروسية" بحكم أ"ن المعارك الفعلية أفضل الطرق لتأكيد واختبار الجاهزية"، وأنه لم يكلف خزانة وزارة الدفاع الروسية سوى نحو 33 مليار روبل (نحو نصف مليار دولار أمريكي تقريباً)، لذا فإن المسألة ـ بالنسبة لبوتين ـ ليست سوى فسحة تدريبية واستعراض للقوة والنفوذ الاستراتيجي، ولذا لم يكن مفاجئاً قوله مؤخراً أن الباب لا يزال مفتوحاً أمام عودة القوات الروسية إلى سوريا "في غضون دقائق إذا اقتضت الحاجة".
سوريا بالنسبة لروسيا، ليست سوى معركة نفوذ عالمي، ومعادل موضوعي للورقة الأوكرانية التي يسعى الغرب إلى التلويح بها في وجه روسيا، وقد فطن الرئيس بوتين إلى ضعف موقف نظيره الأمريكي باراك أوباما في عام حكمه الأخير، حيث تحول أوباما فعلاً ـ لا قولاً ـ إلى "بطة عرجاء" غير قادرة على فعل شىء، بل يعاني ضغوطاً متزايدة من الكونجرس لإفشال الاتفاق النووي الذي أبرمه مع إيران، وبات حلمه الأهم في الأشهر الأخيرة بالبيت الأبيض هو الابقاء على هذا الاتفاق على قيد الحياة، بغض النظر عن تنفيذه من عدمه.
الإشكالية التي يعانيها البعض في فهم استراتيجية الرئيس بوتين تكمن في أنهم ينظرون إليه من منظور "سوفيتي"، بمعنى الاعتقاد بأنه يحاول إحياء النفوذ السوفيتي، وهذا ليس دقيقاً، ولا منطقياً، ولكن بوتين يسعى إلى اثبات مكانة روسيا كقوة كبرى تستحق مزيداً من الاحترام من قبل خصومها الأطلسيين، ولذا فهو يحاول تأكيد "الذراع الطولى" الروسية، لاثبات ذلك وانتزاع التقدير الاستراتيجي. ولو تتبعنا خطوات الكرملين على هذا الدرب لأدركنا بسهولة أنه يمضي وفق نهج مدروس بدأ بالحرب مع جورجيا عام 2008، وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، ما أغرى بوتين بالتمدد ومناكفة الولايات المتحدة في مناطق نفوذ أخرى، لاسيما أن الأمر يتعلق بسوريا، التي تعد أبرز حليف تقليدي لروسيا في الشرق الأوسط.
ثمة بعد آخر يتعلق بقضم "الأطلسي" مناطق النفوذ الروسية التقليدية والتهامها، حيث انقض على ليبيا القذافي، ومن دون أي تنسيق مع روسيا، فضلا عن البعد الخاص بالارهاب وامتدادته في الشيشان وجمهوريات آسيا الوسطى وغيرها.
النقطة الأهم أن بوتين يدرك أن الرئيس أوباما بات غير قادر على صياغة استراتيجية حقيقية للتعامل مع في سوريا، وأن كل ما يهدف إليه الآن هو منع روسيا من شغل مناطق نفوذ جديدة بانتظار سيد البيت الابيض القادم للتعامل مع هذا الملف. والجانب الأخطر أن موقف البيت الأبيض الضعيف ينسحب بالتبعية على شركائه وحلفائه في الأزمة السورية، لذا يبدو الرئيس التركي متوتراً، والأوربيين شبه غائبين عن أزمة تؤثر بشكل مباشر في الأمن الأوروبي.
في ضوء ماسبق، تبدو الأشهر المقبلة حبلى بالكثير من التطورات في الأزمة السورية، فالأطراف جميعها تسعى إلى استغلال تراجع "البطة العرجاء" الأمريكية وترددها، ومن ثم يبدو المشهد مفتوحاً على الاحتمالات جميعها.