وسط الجدل الأمريكي والعالمي حول الصعود السياسي اللافت للمرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب، هناك نقاط غائبة في خضم التركيز الشديد على اتجاهات وآراء رجال الأعمال الساعي إلى كرسي الرئاسة الأمريكية،
ومن أبرز هذه النقاط ما يتعلق بما وراء هذه الاتجاهات وهل تعبر عن ظاهرة عابرة في السياسة الأمريكية أم تعكس عودة إلى نهج الانعزالية Isolationism المتجذر في التاريخ الأمريكي؟ ومن هذه النقاط أيضاً ما يتعلق بمستقبل ظاهرة العولمة والقيم الثقافية الأمريكية التي انعكست في "المكدلة" و "الكوكلة" وغير ذلك من توجهات استهدفت "قولبة" الثقافة العالمية، ونمذجتها و "أمركتها"، ثم كيف نفهم ظاهرة الصعود السياسي للمرشح الجمهوري دونالد ترامب على خلاف غالبية التوقعات، التي اعتبرته بمنزلة "مهرج سياسي" في بدايات الحملة الانتخابية؟ شخصياً، استغرب كثيراً ممن يرون ان آراء ترامب صادمة ومعاكسة للسياسة الخارجية الأمريكية السائدة منذ عقود مضت، رغم أن البعض من هؤلاء اتهم الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما بالأمس القريب بانتهاج سياسة انسحابية في سوريا ومنطقة الخليج العربي، وهو اتهام لا يجافي الواقع ولا يخاصمه، ولكنه يعني أن الصراع بين فكرتي الانخراط والانعزال قائم ومحتدم بين صانعي السياسة الخارجية الأمريكية السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ حربي أفغانستان والعراق، وما تسببتا فيها من خسائر اقتصادية وبشرية للولايات المتحدة الأمريكية، كما يتجاهل أصحاب هذا الرأي أيضاً أن ترامب لم يكن وحده في حلبة الجدل حول مستقبل السياسات الأمريكية، فهناك كان أيضاً المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز، الذي يتوقع أن يكون يختار نائباً للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في السباق الشرس نحو البيت الأبيض، وذلك بعد تراجع فرص فوزه بترشح الحزب الديمقراطي في مواجهة كلينتون، وتلميحه مؤخراً إلى امكانية قبوله الترشح على ورقة نائب الرئيس في حال تم اختياره من جانب المرشحة الديمقراطية الأكثر حظاً للفوز. ساندرز رغم تنافره التام مع توجهات ترامب الاقتصادية، فهو النسخة الديمقراطية من ترامب على صعيد السياسة الخارجية، بحسب ما تشير آرائه وتوجهاته السياسية ولكن مع اختلاف نمط التفكير وحدة التعبير عن الأفكار، فهو يصنف نفسه باعتباره اشتراكياً ديمقراطياً في دولة رأسمالية، بل قلعة الرأسمالية، التي طالما خاضت الصراعات الباردة التي انتهت بإسقاط الأنظمة الاشتراكية والشيوعية خلال القرن الماضي، فآراء ساندرز معاكسة تماماً للتوجه النيوليبرالي الأمريكي، الذي بدأ مع فترة رئاسة ريجان في الثمانينيات، حيث الحد من دور الحكومات في السيطرة على الأسواق، وتشجيع فكرة تحرير السوق وتشجيع المنافسة، وهو ما يعتقد الكثير من الخبراء أنه انتهى إلى الأزمة المالية في عام 2008. وعلى صعيد السياسة الخارجية نجد أن ساندرز يغلّب نهج الحكمة على الخبرة، وهو يتبني مواقف إدارة أوباما ويدافع عنها بقوة، فهو معارض شرس للحروب ويعتبر القوة المسلحة خيارًا ثانيًا في جميع الحالات تقريبًا. ورغم أن ساندرز لم يعد متصدراً للسباق الانتخابي الرئاسي كمرشح ديمقراطي، فإن أفكاره سيتردد صداها في دوائر النقاش السياسي الأمريكي خلال السنوات المقبلة، لاسيما إذا اختيار نائبا لهيلاري كلينتون، فضلا عن أن تأييده من جانب شريحة كبيرة من شباب الديمقراطيين يلفت الانتباه إلى جوانب مهمة من أنماط التفكير الأمريكية السائدة حالياً. والمؤكد أن هناك تغيرات جارية وبشكل متسارع في التوجهات الأمريكية على المستويات الاقتصادية والسياسية، فهناك ميل متزايد إلى الاقتداء بالنموذج الاسكندنافي الاقتصادي، حيث الجمع بين الاشتراكية والنيوليبرالية، والحد من توحش الرأسمالية وتغولها. الأمر المهم وسط هذا الجدل المتفاقم، هو مستقبل العولمة، وهل تمضي وفق نسقها الراهن، أم تتراجع تحت وطأة انحسار قوة الدفع الأمريكية؟ الإشكالية في هذا الإطار أن العولمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة التفوق الأمريكي، والرغبة في عولمة النموذج الاقتصادي والثقافي، وهنا تبدو المعضلة، فالشكوك التي تحيط بالنموذج من داخله ستؤثر حتماً على محاولات إشاعته عالمياً، حيث ستواجه القيم الأمريكية تحديات داخلية فضلا عن التحديات الخارجية التي تواجهها من جانب الدول والقوى التي تشكك في مثالية هذه القيم وجدواها للبشرية. أحد مداخل العولمة هي القوة الذاتية الأمريكية، التي تكمن منذ بداية السيطرة على مفاصل النظام العالمي في القوة التكاملية للنموذج، من الثقافة إلى الفنون إلى الصناعة والاقتصاد والحريات وحقوق الانسان وغير ذلك، ولكن هذه القوة خضعت دوما للصراع بين تياري الانعزالية والقيادة في السياسة الخارجية الأمريكية، ويشهد التاريخ الأمريكي على فترات مد وجزر عدة على هذا الصعيد. فالرئيس الأمريكي السادس جون كوينسي آدامز(1825 ـ 1829)، كان يعكس هذا الصراع حين قال في مواجهة دعاة التدخل في الحرب اليونانية من أجل الاستقلال "الولايات المتحدة لا تذهب إلى الخارج بحثا عن الوحوش لتدميرها"، ومن ثم فإن مصير العولمة ومساراتها يبدو رهن هذا الجدل إلى حد كبير. يجب أن ننتبه أيضاً إلى ان أفكار ترامب أو غيره ليست صكاّ على بياض قابل للتنفيذ، فهناك مؤسسات تشريعية وقيود دستورية وقانونية ربما تجعل من الكثير من هذه الأفكار مجرد حبراً على ورق، فالانفاق العسكري ـ على سبيل المثال ـ من الأمور التي تتصدر اهتمامات الجمهوريين سواء في البيت الأبيض أو الكونجرس، ومن ثم يبدو حديث ترامب عن التقوقع وبناء الأسوار الحدودية وطرح الأجانب، نوع من الخيال السياسي، وهناك تحذيرات عدة من خبراء استراتيجيين أمريكيين معتبرين من أن التوجهات الاتعزالية تضر بالأمن القومي الأمريكي، وتدمر استثمارات أمريكية تاريخية على صعيد بناء التحالفات. وكي نفهم ماهو قادم أمريكياً بشكل أدق، علينا أن نفرق اصطلاحيا بين مفهومي التطرف والتقشف في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية، وهما مفهومان مرتبطان بتوجهات السياسة الخارجية الحالية وربما اللاحقة، فما يتبعه الرئيس أوباما هو في الحقيقة سياسة تقشفية على صعيد التدخلات العسكرية، وهي ايضاً نتاج نقاشات علمية حول جدوى القوتين الناعمة والخشنة، وهي نقاشات أسفرت عن مزيج "القوة الذكية"، حيث التركيز على تحديد الأهداف والوسائل بدقة قبل اختيار بديل التدخل الخارجي، وربما لا يكون أوباما هو الرئيس الأمريكي الأول على درب التقشف في توظيف القوة العسكرية وترشيدها، حيث سبقه عديدين منهم نيكسون وايزنهاور وكارتر. واعتقد أن المدى المنظور على الأقل لن يشهد انعزالاً أو انخراطاً أمريكياً في الأزمات والقضايا الدولية، بل استمرار لنهج متوازن بين فكرتي الانعزال والقيادة، وبما يضمن استمرار السيطرة الأمريكية على مفاصل النظام العالمي بأقل قدر من التكلفة الاقتصادية والأعباء العسكرية والاستراتيجية، وهي أمور يجب أن نتعامل معها ـ كعرب ـ بواقعية، بدلاً من انتظار التغيرات المتوالية في البيت الأبيض.