وسط تسارع الأحداث وتفاقم الأزمات إقليمياً ودولياً، حدث، مؤخراً، لقاء اعتبره غاية في الأهمية بين فضيلة الامام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وبابا الفاتيكان فرانسيس، في لقاء وحوار يكتسب قيمة نوعية هائلة في ظل خطر الفتن والصراعات الدينية الذي يحلق في فضاءات عدة عالمياً.
ولاشك أن إرساء قواعد العلاقة بين الحضارات مسألة بالغة الأهمية، وتحتاج إلى عقول ناضحة وراشدة، فمنذ العقد الأخير من القرن العشرين والعالم يعيش جدل صاخب حول ما يعرف بـصدام الحضارات، وهي الأطروحة الشهيرة التي أطلقها صاموئيل هنتنجتون، الذي حذر في مقالته التي نشرت عام 1993 بمجلة "فورين افيروز" عام 1993، وبشكل غير مبسوق من نشوب صراع بين الحضارات، وحذرت في مبالغة غير محسوبة مما وصف بخطر الصعود الاسلامي، معتبراً أن الصراعات المقبلة لن تنكون اقتصادية ولا أيديولوجية بل صراعات حضارية، بحيث تصبح حدود التوتر وخطوط المعارك والصراعات المستقبلية هي الحدود الجغرافية الفاصلة بين تلك الحضارات، وهي الحضارة الاسلامية والصينية والغربية، وهي نظرية ذات بعد سياسي بامتياز لأنها تنطلق من السياسة وتهدف إليها، ولم تكن لها صلة وثيقة بالبحث العلمي لأنها استعبدت كل الحضارات الانسانية القائمة وركزت على الحضارات من زاوية سياسية بحتة ولافتة، فجاء تحذيرها من الحضارتين الاسلامية والصينية أقرب إلى تحليل سياسي منه إلى دراسة علمية مقنعة، فضلا عن أن هنتنجتون لم يستخدم الدين كمعيار للتصنيف الحضاري سوى في الحالة الاسلامية، في حين اعتمد على معايير هوياتية أخرى في هذا التصنيف!. ما يهمني أن الحوار الاسلامي ـ المسيحي الذي تجسد في لقاء شيخ الأزهر مع بابا الفاتيكان هو خطوة حيوية لازمة لاحتواء آثار مثل هذه الأطروحات، التي أسهمت ـ ولو بجزء بقدر ضئيل ـ في إذكاء التوترات المتصاعدة والعداء الذي تفتعله الجماعات الارهابية الحالية بين الاسلام والغرب، وتنبع أهمية هذا اللقاء من كونه يأتي بعد سنوات طويلة من الجمود في علاقات هاتين المؤسستين الدينيتين المؤثرتين عالمياً، وتحديداً منذ تصريحات مثيرة للجدل أدلى بها البابا السابق بنديكتوس السادس عشر في خطاب القاه في ألمانيا عام 2006. هذا اللقاء له أبعاد عميقة قد لا يدركها الكثيرون، فهو يصب في مصلحة ملايين المسلمين في الغرب، ويدافع عن مصالحهم ويتحدث باسمهم ويصدح بالحق دفاعاً عن صورتهم النمطية التي لحق لها التشويه جراء حماقات وجرائم الارهاب والارهابيين، وهو في الوقت ذاته يضرب المثل والقدوة ويعلي القيم الانسانية والحضارية التي دعا إليها الدين الاسلامي، فليس من المعقول أن نظل نتحدث عن التسامح والاعتدال في ظل بقاء ما يشبه جفاء العلاقات وضعف التواصل بين أكبر رمزين دينيين إسلامياً ومسيحياً. وقد اعجبتني تصريحات وكيل الأزهر الشريف الشيخ عباس شومان التي قال فيها أن شيخ الازهر سوف يحض الدول الغربية على "عدم التعامل مع المسلمين المواطنين (في هذه الدول) كأنهم مجموعات تمثل خطرا عليها بل كجزء لا يتجزأ من مجتمعاتها" وفي الوقت ذاته سوف "يحض المسلمين على الاندماج في مجتمعاتهم" الغربية، مشدداً على أن "الخطاب (سيكون موجها) للطرفين"، وهذه هي رسالة الأزهر التي ننتظرها ونترقبها، أي يقوم بدور فاعل وتوظيف ثقله الديني الهائل في التصدي للفكر المتطرف والمتشدد وأن يكون صوت الاعتدال الحقيقي للاسلام والمسلمين في مختلف مناطق العالم. والحقيقة أن هذا اللقاء هو تعبيرعن فكر رجلين في قمة المسؤولية الدينية ـ إسلامياً ومسيحياً، فشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب عالم دين كبير ورجل مثقف ومتفتح وقادر على إدراك مايحيط بالعالم الاسلامي من تحديات وما لحق بالدين الاسلامي العظيم جراء خلط المفاهيم والتشويه والاساءات التي لحقت به على يد المتطرفين والارهابيين، والبابا فرانسيس، بدوره، من دعاة الحوار ـ لا الصراع ـ بين الأديان والحضارات، وله تصريحات ومواقف مشهودة على هذا الصعيد، الأمر الذي يؤكد قيمة هذا اللقاء ويؤكد أهميته. وهذه الزيارة التي تأتي بعد سنوات من "تعليق الحوار" من الأزهر والفاتيكان، لم تأت فجأة فهناك تواصل وحوارات تجري منذ فترة بين الأزهر والفاتيكان منذ تولي البابا فرانسيس رئاسة الكنيسة الكاثوليكية. لذا فإن هذا اللقاء سيضع النقاط على الحروف في أمور ومسائل كثيرة، لاسيما أن القيادتين الدينيتين ـ شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان ـ مشهود لهما بسعة الأفق والانفتاح والاعتدال كما قلت، حيث سبق أن دعا البابا غير مرة في تعليقه على الارهاب الطائفي في دول مختلفة من العالم العربي والاسلامي إلى "تفادي التعميم لان الاسلام الحقيقي يتعارض مع اي شكل من اشكال العنف"، في حين يقف الأزهر بقوة ضد العنف والارهاب، ولا يتبنى مواقف لا تردد فيها ولا شكوك حيث سبق أن دان الأزهر "بحزم" شديد الأعمال الارهابية الحاقدة في عواصم أوروبية مختلفة مؤكداً انتفاء العلاقة بين هذه الجرائم وتعاليم الدين الاسلامي. هذا اللقاء التاريخي سيسهم في تكريس مبدأ التعايش في وقت نحتاج فيه جميعا، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، إلى هذا المبدأ كطوق انقاذ وبديل لا غنى عنه لانهاء الصراعات وسفك الدماء في كثير من دول المنطقة، فلاشك أن شيخ الأزهر الرجل الوقور الدكتور أحمد الطيب من أثر علماء الدين الاسلامي إيماناً وقناعة بمبدأ التعايش بين الأديان والحضارات، وعلى الجانب الآخر فإن بابا الفاتيكان قد عبر من جانبه عن إيمانه بهذا المبدأ، وقد تناول في تصريحات له مؤخراً، هذا الموضوع قائلاً "في الجوهر التعايش بين المسيحيين والمسلمين ممكن. اتحدر من بلد يتعايشون فيه بشكل جيد"، ويبدي تفهماً جيداً للأحداث التاريخية ولا يقرأ التاريخ بعين متعصبة أو متشددة، كما أنه داعية حوار حتى بين الطائفتين الارثوذكسية والكاثوليكية، حيث التقى البابا فرانسيس في فبراير الماضي البطريرك كيريل بطريرك موسكو وعموم روسيا للارثوذكس بعد اكثر من الف سنة على القطيعة بين مسيحيي الشرق والغرب، كما أنه سبق أن قام بزيارة مساجد ودور عبادة يهودية ويقيم علاقات جيدة مع الكثير من قادة الدول الإسلامية، وله مواقف مؤكدة في عدم التفرقة بين المسيحيين والمسلمين، ، وهذه اعتبارات ومؤشرات تسامح عميقة تصب في مصلحة الحوار الاسلامي ـ المسيحي. من الناحية التقليدية، فإن زيارة الدكتور احمد الطيب شيخ الأزهر للفاتيكان ولقائه بابا الكاثوليك هي زيارة تاريخية بكل المقاييس، ولكن عامل التوقيت يضفي عليها مزيداً من الأهمية والعمق التاريخي، كونها تأتي في ظروف بالغة الحساسية، وتعكس وعياً هائلاً من جانب مؤسسة الأزهر الشريف، بكل تراثها ودورها وأثرها العلمي والديني التاريخي الضخم، حيال تكريس مبادىء التسامح والتعايش الديني والانساني بين أصحاب الديانات المختلفة، والتأكيد على ضرورة الحوار كبديل لاغني عنه من أجل الأمن والاستقرار ونبذ التطرف والارهاب والغلو في الدين. لقاء أهم قيادتين دينيتين في العالم الاسلامي والمسيحي يمثل ضربة قاصمة للارهاب والتطرف، ويؤكد قيمة التسامح والتعايش والاعتدال، وهي القيم التي تؤمن بها دولة الامارات وتعمل دوماً على تكريسها في واقعنا المعاصر.