في خطوة لافتة، وإن كانت متوقعة، أصدر مجلس النواب الأميركي مؤخرا، إدانة للقرار الأممي الذي صادق عليه مجلس الأمن الدولي حول المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن المعروف أن القرار الأممي ليس ملزماً لإسرائيل، كونه لا يندرج تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يسمح لمجلس الأمن بتحديد حالات تهديد الأمن والسلم الدوليين أو الإخلال بهما، وأن يقدّم توصياته في هذا الشأن أو يلجأ لاتخاذ تدابير بشأن القيام بعمل عسكري أو غير عسكري للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، واكتفى القرار بمطالبة إسرائيل بإيقاف كل الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة فورا وبشكل نهائي.
ولكن ما يستفز إسرائيل في هذا القرار أنه جاء بعد فترة طويلة شهدت جمودا في تعبير مجلس الأمن الدولي عن موقفه حيال الأنشطة الاستيطانية، حيث يعتبر هذا القرار أول إدانة أممية تصدر لسياسات الاستيطان الإسرائيلية منذ عام 1979، ناهيك عن أن هذا القرار قد اعتبر المستوطنات بشكل صريح “ليس لها سند قانوني” وأنها “تشكل خطرا حقيقيا على إمكانية تحقيق حل الدولتين”.
اللافت في موقف مجلس النواب الأميركي حيال هذا القرار أنه يتنافى مع الموقف الرسمي الأميركي الذي لم يستخدم كعادته، حق النقض في اعتراض مسار القرار الأممي، والأمر المهم أيضا أن التصويت قد تم في مجلس النواب بأغلبية كبيرة جدا، حيث مرّ القرار بأغلبية 342 مقابل 80 صوتا لمصلحة إدانة قرار مجلس الأمن الدولي.
يقول قرار مجلس النواب الأميركي في ديباجته إن رفض الدبلوماسية الأميركية استخدام حق “النقض” في مجلس الأمن ضدّ القرار الأممي “يقوّض” الموقف الأميركي الثابت منذ عقود بشأن ضرورة معارضة أيّ قرار معاد لإسرائيل في المنظمة الدولية، وهو ما يعني أن مجلس النواب الأميركي يتهم إدارة أوباما بالقفز على أحد ثوابت السياسة الخارجية الأميركية، وربما يكلف هذا الأمر الحزب الديمقراطي كثيرا في المعارك الانتخابية المقبلة، وربما يكون هذا ما دفع بعض النواب الديمقراطيين إلى التصويت مع إدانة القرار الأممي مخالفين ما يفترض أنه توجهات حزبية “ديمقراطية” بالامتناع عن التصويت على هذا القرار في مجلس الأمن.
هذا التبرير يعني أن الموقف الأميركي تجاه إسرائيل لا يتعلق بتوجهات الرئيس الجديد دونالد ترامب أو غيره، بل علينا أن نعترف بأن الرئيس الذي انتهت ولايته، باراك أوباما، كان يحاول السباحة عكس التيار في أوقات وأزمات كثيرة ذات علاقة بإسرائيل.
أدرك أن أوباما في علاقته بإسرائيل لم يكن يساند العرب، ولكنه كان يمتلك رؤية ذاتية بشأن آليات معالجة قضايا المنطقة والعالم، وكانت بعض جوانب هذه الرؤية تتوافق أحيانا مع مصالح هذا الطرف أو ذاك، ولكن ذلك لا يعني أن أوباما كان يحابي هذا الطرف أو يتبنى مواقفه، فهو في الأخير رئيس الدولة المهيمنة على مفاصل النظام العالمي، ولا يوالي مصالح هذه الدولة أو تلك عدا إسرائيل، التي كان أوباما يعتقد أن مصلحتها تكمن في الالتزام بحل الدولتين والتوقف عن الاستيطان من أجل إنهاء الصراع مع الفلسطينيين، وهي رؤية تصبّ في مصلحة إسرائيل ولكنها مغايرة لتوجهات حكومة نتنياهو، التي تؤمن بأن البيئة الراهنة في الشرق الأوسط تمثل بالنسبة إلى إسرائيل فرصة ثمينة للانقضاض على ما تبقى من القضية الفلسطينية وحسم موقف القدس كعاصمة لإسرائيل.
تصويت مجلس النواب الأميركي ضد القرار الأممي ربما يكون قد مرّ على الكثيرين في منطقتنا من دون أن يلفت الانتباه، ولكنه نقطة مفصلية، ويشير إلى أن القادم أصعب بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، على الأقل خلال فترة الرئيس ترامب، الذي سيجد بيئة تشريعية مواتية وجاهزة لاستقبال أفكاره التي تصبّ في مصلحة إسرائيل، وفي مقدمتها ما يتعلق بالقدس الشريف، حيث يتوقع أن تتخذ إدارة ترامب حيالها مواقف رسمية تحيد عن الموقف الأميركي المعتاد منذ عقود، وبما يجعل مستقبل التسوية السلمية للقضية في مهبّ الريح في ظل هذه التوجهات المشتركة بين البيت الأبيض والكونغرس.
علينا كعرب أن ندرك أننا نتعامل مع مشهد أميركي مغاير، وأن التوجهات الاستراتيجية الأميركية ستختلف، قليلا أو كثيرا، حسب معطيات الفترة المقبلة، وعلينا أن نتعامل بواقعية مع هذه الحقيقة كي نحافظ على مصالحنا، لا سيما أن البدائل يجب ألا تكمن في حلول انفعالية مثل المبادرة إلى الارتماء في أحضان الخصوم الاستراتيجيين للولايات المتحدة، باعتبار أنهم البديل الموضوعي للدعم الأميركي.