دارت طيلة الأعوام الماضية نقاشات وعقدت ندوات ومؤتمرات وصدرت كتب ومؤلفات بالالآف في مختلف دول العالم حول تأثيرات الاعلام الجديد، ولاسيما تأثير وسائل التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و "تويتر" على انسياب الأخبار وتوجيه الرأي العام. وفي نهاية العام الماضي 2016 برز تأثير جديد للاعلام الجديد يتمثل في اتهام "فيسبوك" بالتأثير في نتائج الانتخابات الأمريكية، حيث يشار إليه بلعب دور في توجيه الرأي العام الأمريكي نحو التصويت للرئيس دونالد ترامب على حساب منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
ومنذ فترة ليست قصيرة، تحاول شركة "فيسبوك" وضع ضوابط لنشر الأخبار والقصص الصحفية والاعلامية على موقعها، وبالأمس أعلنت الشركة عن أطلاق ما يعرف بـ "مشروع الصحافة" بهدف تعزيز علاقة "فيسبوك" بصناع الأخبار من خلال التعاون في تطوير المنتجات وتوفير طرق جديدة تتيج للناشرين كسب المال، ولكن الأهم في هذا المشروع هو أنه يستهدف تعزيز الالتزام بالمحتوى الذي توفره وكالات الأنباء.
التساؤلات تدور حول مقدرة شركة "فيسبوك" على السيطرة على دور الموقع كموزع للأخبار، وبشكل دقيق في ما يتعلق بالتصدي لانتشار المعلومات الخاطئة. والواقع الآن في الاعلام ،الجديد والتقليدي في آن واحد معاً، يتمثل في أنه في الوقت الذي تسحب فيه مواقع الاعلام الجديد بساط الاعلانات من تحت أقدام الصحف ووسائل الاعلام التقليدية كافة، حيث باتت معظم كعكة الاعلانات موجهة إلى مواقع وسائل التواصل الاجتماعي و"جوجل" وغيرها، تضطر الصحف ووكالات الأنباء إلى الاغلاق الانسحاب من السوق بسبب ضغوط اقتصادية متزايدة.
لم يعد موقع فيسبوك اجتماعياً صرفاً رغم حرصه على البقاء داخل مساحات الأهل والأصدقاء، لكن الحقيقة أنه بات يتحرك في مساحات هائلة ليست لها علاقة بالنطاقات الضيقة للروابط الاجتماعية كما هو معتاد، فرغم إعلان الموقع في يونيو الماضي عن مبدأ يستهدف تقنين نشر الأخبار من خلال النص على أن المشاركات من العائلة والأصدقاء يجب أن تكون في المرتبة الأولى من حيث الظهور في صفحة المستخدم، فإن هذه المبدأ لا يحول دون لعب الموقع التأثير الأهم على صعيد نشر المعلومات خارج النطاق العائلي، فعادة ما يترك المستخدمون دائرة التصنيف العائلي خاوية بحيث يصبح هذا المبدأ بلا فاعلية من الناحية الواقعية، وتصبح الأرجحية لنشر الأخبار بشكل مطلق.
نوايا فيسبوك للسيطرة على قطاع الاعلام واضحة من خلال ترتيب أولويات النشر التي توفر للأخبار الأولوية والصدارة وتمنحه أفضلية مقارنة بالمحتوى الترفيهي على سبيل المثال. ويقول مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك أن شركته ليست شركة إعلام تقليدي، ويصر على أنه لا يزال يستهدف تقنيات التواصل ولكن الجديد في كلامه أنه بات يركز على العمل الوثيق مع شركات صناعة الأخبار، ما يعني أن فيسبوك بات يستهدف التحرك في نطاق قطاع الاعلام. وما يعزز ذلك أن الشركة تتوجه بوتيرة متسارعة إلى هذا القطاع؛ فقبل أيام قلائل من الاعلان عن "مشروع الصحافة" عينت الشركة مذيعة معروفة من شبكة "سي إن إن" لتقود فريق شراكات الأخبار في "فيسبوك"، ناهيك عن أن الشركة اتجهت قبل ذلك إلى أشكال مبتكرة من عرض الأخبار رغم أنها ارتدت ثوب التواصل الاجتماعي، وفي مقدمة ذلك تأتي أشكال البث المباشر، الذي يمثل تحولاً نوعياً هائلا في صناعة الاعلام عبر موقع وسائل التواصل الاجتماعي الأشهر.
تسعى فيسبوك إلى بناء شراكات تقول أنها تستهدف "محو الأمية الأخبارية"، وهذا بحد ذاته شعار مبتكر للتحرك في فضاءات جديدة للاعلام. والواضح أن شركة فيسبوك تكتسب دعماً لموقفها الاعلامي حيث ترى أن تعطش الجمهور للقصص الأخبارية يمنحها أفضلية وأن الأخبار، سواء كانت صادقة أو كاذبة إن لم توجد على فيسبوك فستوجد في غيرها من المواقع والشبكات الالكترونية، وأنها لا تروج لأي قصص اخبارية بل الجمهور والمستخدمين هم من يقومون بذلك، بمعنى أنها ليست سوى نطاقاً للنشر، وأن المشكلة تكمن في أن الجمهور يبحث عن البديل وليست في سياسات هذا الموقع أو ذاك.
لاشك أن الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي ترامب هي التي دشنت فعلياً تأثير الفيسبوك في مجال الاعلام والتأثير السياسي، حيث اعتمدت الحملة بشكل هائل على موقع فيسبوك، وتغلبت من خلاله على حملة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون التي انفقت نحو 140 مليون دولار على إعلانات تلفزيونية لم تفلح في جذب مؤيدين يضمنون لها الفوز في صناديق الاقتراع.
تأثيرات الانتشار الفيسبوكي/ التويتري القوي للرئيس ترامب تبدو واضحة في مواجهته لأقوى شبكة إعلام أمريكية وهي "سي إن إن"، التي ظلت لعقود تزلزل عروش معظم حكام العالم، فإذا بالرئيس الأمريكي يرفض الرد على مراسلها في مؤتمر صحفي ويتهم الشبكة علناً بالكذب وتزييف الأخبار، ويبدو أن ترامب بات أكثر ثقة في اعتماده على وسائل الاعلام الجديدة، التي لعبت دوراً هائلاً في منحه الأفضلية الانتخابية، حيث خاض الانتخابات وسط شبه إجماع من وسائل الاعلام الأمريكي التقليدية على معارضته، فلم يكن ترامب يحظى في بداية نوفمبر الماضي سوى بدعم نحو خمس أو ست صحف فقط في مشهد غير مسبوق تاريخياً في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
الشواهد تؤكد أن الاعلام الجديد لن يقتصر على التأثير في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بل يمكن أن يغير مشهد النظام العالمي برمته، فالاعلام يشهد تحولات جذرية هائلة وعلينا في العالم العربي أن نتفاعل مع هذه التحولات كي نستطيع مواكبة ما يدور من حولنا.