لا شك أن العالم يمر بلحظة فاصلة مثل تلك التي مر بها عقب الحربين العالميتين، الأولى والثانية، ومع نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين، حيث تفكك الاتحاد السوفيتي السابق رسميًا، ولم تكن الولايات المتحدة قد أحكمت قبضتها بعد على مفاصل النظام العالمي القائم وقتذاك، وفي تلك الفترات غالبًا ما تحدث كوارث جسيمة يظل العالم يدفع فاتورتها لعقود وسنوات طويلة بعدها.
على سبيل المثال، عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، استشعر النظام العراقي السابق بقيادة صدام حسين وجود لحظة سيولة في العلاقات الدولية، وحاول استغلال الفرصة لاحتلال دولة الكويت الشقيقة، ولكن على النقيض من تفكيره الاستراتيجي السيئ هذا، كان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب يدرس استغلال جريمة صدام حسين في إحكام القبضة الأمريكية على النظام العالمي القائم، وإعلان الولايات المتحدة قوة قطبية وحيدة مهيمنة على هذا النظام!!
في الوقت الراهن، هناك أعراض مماثلة للسيولة الواضحة في العلاقات الدولية، تتجلى مظاهرها في حالات عدة منها ما يحدث في سوريا، ولاسيما في ما يتعلق بغياب الولايات المتحدة للمرة الأولى منذ عقود عن قيادة عملية التسوية في أزمة كبرى مؤثرة في مصالحها الاستراتيجية، حيث تقود روسيا بالتنسيق مع تركيا الترتيب لجولة مفاوضات الأستانا، بل إن الإدارة الأمريكية الجديدة، التي يقودها الرئيس دونالد ترامب لم تظهر أي مقدرة على توفير بدائل استراتيجية لحل الأزمة السورية، عدا مقترحها الذي تردد أكثر من مرة، بشأن إقامة مناطق آمنة في الداخل السوري!.
من بين هذه المظاهر أيضًا، استمرار تنظيم "داعش" في السيطرة على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، حتى أن بعض التقارير الإعلامية الغربية قد أكدت أن التنظيم لم يفقد خلال عام 2016 سوى نحو 25% من الأراضي التي يسيطر عليها رغم الضربات العسكرية والحملة الجوية التي تشارك فيها جميع دول العالم تقريبًا!
هناك أيضًا، الوضع المضطرب في الشرق الأوسط، حيث تعربد إيران في المنطقة استغلالًا لفراغ القوة الذي تركته الولايات المتحدة بانحسار نفوذها ودورها، الذي تسعى طهران لملئه عبر إحياء خططها الاستعمارية التوسعية، لدرجة أن إيران باتت تتباهي علنًا بوصول نفوذها إلى البحر الأبيض المتوسط، وتناطح نفوذ حلفائها الروس في هذا البلد العربي!
لا أقول إن التغير في نمط القيادة الأمريكي للنظام العالمي الجديد هو السبب الوحيد لكل ما نراه من فوضى إقليمية ودولية، ولكن الأمر الكارثي أن هذا التطور يتواكب مع متغيرات أخرى فارقة ما ضاعف أثره الاستراتيجي، ومن هذه المتغيرات دخول قوى إقليمية مؤثرة في حالة اضطراب وانكفاء على الداخل بسبب مشاكل وأزمات اقتصادية وأمنية وسياسية، وفي مقدمة هذه القوى تأتي الشقيقة مصر، بكل ثقلها ونفوذها ومكانتها الإقليمية، بل ربما لا ابالغ لو قلت أن انحسار الدور المصري اقليميًا هو السبب المباشر في التمدد الاستراتيجي الإيراني في دول مثل سوريا تحديدًا، لما لخصوصية الدولة السورية في حسابات التوازن الاستراتيجي الإقليمي المصرية منذ منتصف القرن العشرين.
فسوريا هي الشطر الآخر من الجمهورية العربية المتحدة خلال فترة الوحدة في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر كما نعرف جميعًا، وسوريا لها حسابات وتقديرات خاصة ضمن روزنامة الأمن القومي المصري، ولم تكن مصر لتسمح بهذا العبث في سوريا، سواء من جانب تنظيمات الإرهاب أو من جانب إيران لو أنها ـ أي مصر ـ كانت في موقف استراتيجي يسمح لها بالسيطرة على مكامن التأثير الإقليمي، ولكن مصر، هذه الدولة الأكثر ثقلًا عربيًا، لا تزال منذ اضطرابات عام 2011، في مرحلة تضميد الجراح ومحاولة استعادة النفوذ، وهو أمر نأمل جميعًا ألا يستغرق وقتًا كثيرًا.
الآن، يتجه العالم لمتابعة تطور آخر له علاقة بحالة السيولة والفوضى السائدة في النظام العالمي، حيث توشك أزمة عسكرية كبيرة ان تندلع في أفريقيا، لاسيما بعد أن حشدت السنغال قواتها العسكرية على الحدود الغامبية مهددة بالتدخل العسكري إذا رفض الرئيس الغامبي يحي جامع تسليم السلطة للرئيس المنتخب اداما بارو.
الأزمة السياسية في غامبيا تتفاقم في الفترة الأخيرة، وتكاد تتسبب في أزمة كبرى في غرب افريقيا بعد أن تدخلت دول مجموعة الايكواس من أجل فرض احترام نتائج الانتخابات في غامبيا، حيث هددت دول المجموعة باللجوء إلى القوة العسكرية لإزاحة الرئيس المنتهية ولايته مالم يسلم مقاليد السلطة التي ظل ممسكًا بها نحو 22 عامًا إلى الرئيس المنتخب، وشكلت هذه الدول بالفعل قوة عسكرية تقودها السنغال للتدخل المحتمل في غامبيا.
الأزمة الحاصلة الآن في غامبيا هي تجسيد لأزمة النظام العالمي أيضًا، حيث غياب النظام المؤسسي الدولي بموازاة انحسار النفوذ الأمريكي سواء لرغبة أمريكية قوية في تخفيف الدور الاستراتيجي وطغيان فكرة الانعزالية مجددًا على الساحة السياسية الأمريكية، أو لأن فكرة الهيمنة ذاتها لم تعد تصلح في ظل تمدد قوى العولمة وبروز قوى دولية صاعدة تنازع الولايات المتحدة أدوات السيطرة والنفوذ والهيمنة الاستراتيجية.
في جميع الأحوال، فإن تفاصيل المشهد الدولي توحي بأن العالم مقبل على مزيد من المعاناة والاضطراب والفوضى وغياب الاستقرار، لاسيما إذا وجدت أفكار الإدارة الأمريكية الجديدة بشأن الانعزالية وحسابات التكلفة والعائد التي يتبناها ترامب في سياسته الخارجية، طريقها إلى النور، إذ سيجد العالم نفسه في مواجهة لحظة سيولة أكثر تدهورًا مما شهده في فترات تاريخية سابقة، وهناك مظاهر تحلل واضحة لجسد النظام العالمي القائم، وهناك بطبيعة الحال مناطق جيوسياسية مرشحة مبدئيا لدفع القسط الأكبر من فاتورة هذه الفوضى المتوقعة، وفي مقدمتها تأتي منطقة الشرق الأوسط!!.