ألقى الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما يوم الثلاثاء الماضي خطاب الوداع في نهاية فترته الرئاسية الثانية، وسعى إلى استعراض جردة حساب لسنواته الرئاسية الثماني. وبعد طي صفحة هذه السنوات من رئاسة أوباما، يطرح تساؤل بديهي مفادها: ماذا حدث في الولايات المتحدة خلال تلك السنوات؟ وهل وصل التغيير إلى أميركا كما قال أوباما نفسه في شيكاغو عقب انتخابه مباشرة عام 2008؟
من تابع تفاعلات الساحة السياسية الأمريكية في الأشهر الأخيرة، يدرك أن الرئيس أوباما يخشى بالفعل ضياع الإرث السياسي، الذي تركه عقب انتهاء ولايته الثانية، لاسيما ما يتعلق بالقانون المعروف بقانون أوباما ـ كير، الذي يهدف إلى توفير التأمين الطبي لنحو 95% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية بحلول عام 2019، بصورة أسهل وأقل تكليفاً، وهو القانون الذي وعد الرئيس المنتخب ترامب بالغائه بمجرد تسلمه السلطة في العشرين من يناير الجاري كرئيس للبلاد.
موقف ترامب الحاد تجاه هذه القانون دفع الرئيس أوباما إلى الذهاب للكونجرس مؤخراً، حيث التقى الأعضاء الديمقراطيين وحثهم على توحيد مواقفهم تجاه الإدارة الجمهورية الجديدة، لاسيما في ما يتعلق بموقفها حيال برنامجه الصحي، الذي يعتبره أوباما بصمة تاريخية تركها في حياة الشعب الأمريكي، بل يعتبره أحد أفضل انجازاته طيلة السنوات الثماني التي قضاها في البيت الأبيض.
من المعروف أن موضوع الرعاية الصحية هو أحد أبرز القضايا الخلافية بين الديمقراطيين والجمهوريين في ظل افتقار نحو 50 مليون أمريكي للتأمين الصحي، حيث تأثرن أوضاع نسبة كبيرة من الشعب الأمريكي بالخلاف الحزبي المزمن حول هذا الموضوع منذ عهد الرئيس روزفلت، بل إن الديمقراطيين ذاتهم قد فشلوا في تثبيت خطط طموحة وضعت في السابق، وتحديداً في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون في منتصف التسعينيات.
من الناحية الموضوعية، يعتبر برنامج أوباما ـ كير أهم إنجازات الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته في الداخل الأمريكي، حيث وضع الولايات المتحدة في خانة الدول المتطورة التي توفر رعاية صحية شاملة لمواطنيها، وكانت قبل ذلك الدولة الكبرى الوحيدة، التي تتخلى عن دورها على صعيد الرعاية الصحية الشاملة وتتركه للقطاع الخاص، حيث انطلقت مؤشرات الرعاية الصحية الأمريكية بعد هذا القانون وحلقت في فضاءات عالية، وأصبحت الولايات المتحدة واحدة من الدول الصناعية الكبرى الأكثر انفاقاً على الرعاية الصحية لمواطنيها، حيث بلغ نصيب المواطن الواحد من هذا الانفاق نحو 8400 دولار سنوياً عام 2011.
على المستوى الاحصائي، فقد استفاد من برنامج أوباما ـ كير نحو 20 مليون شخص، فأصبح لدى 9 من بين كل 10 أميركيين تأمين صحي لأول مرة في التاريخ، لكن يبدو أن ذلك ليس مبرراً كافياً للابقاء عليه من وجهة نظر الجمهوريين، الذين يعدون العدة للانقاض عليه حتى قبل تسلم ترامب السلطة، حيث قال نائب الرئيس المنتخب مايك بينس إنَّ إلغاء القانون هو "الموضوع الأول على جدول الأعمال"، مشيراً إلى أنَّ ترامب قد يتخذ إجراءاتٍ في يومه الأول في البيت الأبيض، والاشارة واضحة في اختيار الرئيس ترامب وزير صحة جديد هو توم برايس، السيناتور عن ولاية جورجيا، والذي يعتبر أحد أشد معارضي برنامج أوباما ـ كير.
هذا القانون إذاً هو عدو الجمهوريين الأول منذ التصويت عليه في عام 2010، وموقف الرئيس ترامب منه ليس فردياً، وعلينا ان نتذكر أن القانون واجه رفضاً قوياً عند التصويت عليه ولم يحصل على صوت جمهوري واحد في الكونجرس، حيث يرى معارضوه أنه يناقض مبادىء الدستور الأمريكي في يخص الحريات المدنية كونه يلزم الجميع بشراء وثيقة التأمين الصحي، ويفتئت على سلطات الولايات كونه يعزز سلطات الحكومة الفيدرالية على قطاع التأمين الصحي؛ ناهيك عن أن موقف مرشحي الحزب الجمهوري إزاء برنامج أوباما ـ كير معروف، فالجميع كان يضعون اسقاط البرنامج في صدارة برنامجهم الانتخابي، وترامب ليس استثناء على هذا الصعيد؛ والواضح إذاً أن برنامج أوباما ـ كير قد يكون أول تغيير داخلي يحدثه الرئيس ترامب في ولايته الرئاسية.
على صعيد السياسة الخارجية، ربما يصعب على ترامب تحقيق اختراقات جوهرية عدا ما يتعلق بملف العلاقات مع روسيا، فقد تعهد بإجراء مراجعة جذرية في هذا الاتجاه، والأرجح أنه سيذهب في مسار مغاير تماماً لسياسات أوباما، لاسيما بعد أن وصف رافضي التقارب مع روسيا بأنهم مجموعة من "الحمقى والأغبياء".
في ما يتعلق بسوريا، ورغم أن أوباما لم يحصد سوى الفشل لسياساته في هذا الملف، حيث انتهت فترة ولايته الثانية وسوريا في قبضة روسيا وتركيا وإيران، يتفاوضون حول مصيرها بمعزل عن الولايات المتحدة، ربما في واقعة هي الأولى من نوعها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وسيطرة الولايات المتحدة على مفاصل النظام العالمي، التي يجري فيها تحديد مصير دولة ما بمعزل عن القوة العظمى المهيمنة على هذا النظام.
يغادر أوباما البيت الأبيض وقد ترك إنجازاً اقتصادياً يتمثل في نجاحه في انقاذ الاقتصاد الأمريكي من أزمة مالية ساحقة، حيث خفض معدلات البطالة إلى نحو 7ر4% بعد أن وصلت إلى 10 % قبل توليه فترة الرئاسة عام 2008 مباشرة.
من باب الموضوعية القول بأن أوباما لم يترك بصمات تضمن له تسجيل فترة رئاسته تاريخياً كحقبة "أوبامية" مميزة، فسياساته تعرضت فعلياً للفشل والاخفاق في معظم ملفات السياسة الخارجية الأمريكية، بل إنه من الرؤساء القلائل الذين يسعى من يخلفونهم إلى محو بصماتهم تماماً، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، ففي الدخل هناك سعي "ترامبي" حثيث لالغاء برنامج اوباما ـ كير كما ذكرت، وفي الخارج هناك سعي مماثل لالغاء او تعديل الاتفاق النووي الموقع مع إيران، الذي ينظر إليه أوباما باعتباره أحد إنجازات فترة رئاسته أيضاً.